رأي
بين الحين والآخر، وحيثما تسمح الظروف، أطرق باب العديد من المؤسسات التي لها علاقة بالعراق بشكل او بآخر، أحاول ارضاء فضولي الجارف في الاطلاع على تفاصيل منسيّة من حقب مختلفة لتاريخ العراق المعاصر.
الاطلاع على أرشيف الآخرين تجربة ثرية، وبين ثنايا هذا الأرشيف قد تلتقط الكثير مما له علاقة بالعراق، حلقات منسية من الماضي الذي فقد الاهتمام به بسبب التراكمات السلبية التي حصلت. مرّت بنا كعراقيين أحداث كبرى صادمة الواحد منها كفيل بجعلنا نفقد الذاكرة للأبد. التراكمات السلبية ولا مبالاة المؤسسات الرسمية جعلتنا نفقد الأرشيف في الواقع، ونفقده في الذاكرة أيضا.
اطلعت على أرشيف شركات عديدة لها علاقة بالعراق طيلة النصف الثاني من القرن العشرين، ومؤسسات ثقافية كانت على علاقة بالثقافة والتاريخ العراقي، ووجدت هناك الكثير مما يستحق الاهتمام، أما آخر تلك الحلقات فمحاولة البحث في أرشيف وتراث المعماري الفنلندي المعروف عالميا "آلفار آلتو" الذي ترك بصمته الفنية في فنلندا، وألمانيا، وروسيا، وأمريكا، وبلدان أخرى عديدة.
لهذا المعمار الفذ متحف باسمه، في مدينة "يوفاسكولا" الفنلندية، يهتم بكل ما يتعلق به، وفي خضم البحث عن نشاط ومنجزات آلتو دخل العراق على الخط مرة أخرى، والمناسبة هي إيعاز من الملك فيصل الثاني، منتصف الخمسينات، الى "مجلس الإعمار" بضرورة تشييد سلسلة من المباني في بغداد من اجل اظهار العاصمة العراقية بوجه عصري يليق بها. ذلك الإيعاز دفع مجلس الإعمار الى استدعاء كوكبة من المعماريين العالميين الى بغداد، وأوكل الى كل منهم مهمة خاصة، وبناءً على تلك الدعوة أوكل للمصمم "فرانك لويد رايت" تصميم مجمّع يضم مسرحا ودارا للأوبرا، كما تكفّل الفرنسي شارل إدوارد جانوريه غري المعروف "لوكوربوزييه" بتصميم مدينة رياضية، كما صمم الإيطالي جيو بونتي مبنى وزارة التخطيط، ومن بين تلك الكوكبة كانت حصة الفار آلتو تصميم مبنيين، الأول متحف للفنون الحديثة، أما الثاني فهو مكتب البريد المركزي. هذه المناسبة دفعت آلتو الى زيارة بغداد أكثر من مرة، منها زيارته نهاية تموز 1957 من أجل شرح تفاصيل التصاميم التي أنجزها.
ذلك المشروع المميز جدا لم يكتمل بسبب تداعيات أحداث 1958، بعض تلك المشاريع نفذ وبعضها لم يرَ النور، كما هو الحال مع مبنى البريد المركزي، ومبنى متحف الفن الحديث اللذين أوكلا الى آلتو، وهناك مبان أخرى نفذت ولكن بشكل مختلف ونسبت لغير أصحابها، كما هو الحال مع مشروع "لوكوربوزييه".
أستغرب كثيرا من عدم تنفيذ جميع تلك المشاريع التي صممها خيرة المعماريين في العالم آنذاك، خصوصا وأن حقبة عبد الكريم قاسم، ورغم كل ما عليها من ملاحظات، كانت من أنشط الحقب من حيث العمران في تاريخ العراق. ليس ثمة مبرر منطقي يدفع لعدم انجاز تلك المشاريع!