أعمدة رئيسية

فيدرالية يراد بها اقطاعية

فيدرالية يراد بها اقطاعية

جاسم بديوي

قد لا أجد معترضين كثرا إذا ما وصفت شكل الدولة العراقية وبعض دول المنطقة الآن بأنه أشبه بنظام الاقطاعيات الذي كان شائعا في حقبة ما قبل الدولة الحديثة. ورغم ان بعض الباحثين الخجولين أطلق تسمية أشباه الدول على ما أقصد فإني لا أجد هذا الوصف يغطي دلالاتها ومعانيها تماما، كونها، أي الدول، ومنها العراق، تفتقر الى مؤسسات ضمان حق المواطنة وتفرعاتها التي تتعقد وتتشابك بفعل عاملي التقادم والتقدم في الدول - المؤسسات نظرا لمتعلقات كثيرة منها ما هو تاريخي إجرائي، ومنها ما هو ثقافي معرفي، ومنها ما هو أخلاقي إنساني.   يمكن أن تحصر الاقطاعيات التي تحكم العراق بوصفه عيّنة مهمة في المنطقة الى ثلاث اقطاعيات: الاقطاعية الدينية، والاقطاعية العشائرية، والاقطاعية التسلطية.   هذه الاقطاعيات متفاعلة ومتشابكة فيما بينها بشكل سوريالي وغرائبي الى درجة الشعور بالتشتت والغموض، مشكّلة الجسد السياسي المسخ الذي لا يختلف عاقلان بعدم وضوح ملامحه، ولا اكتمال أطرافه المشوهة بفعل القرارات السريعة والعاجلة والتوافقية العشوائية في بناء دولة مرحلة ما بعد صدام حسين.   ومما يستحق الذكر ان انتعاش هذه الاقطاعيات جاء نتيجة لحصولها على الدعم الاقتصادي واللوجستي من مصادر خارجية وداخلية على وفق اشتراطات متعددة لملء الفراغ السياسي والمؤسساتي الذي أعقب سقوط نظام البعث في العراق 2003.   لقد أسهم نظام البعث في انهاء مظاهر تماسك التكافل الاجتماعي المدني عن طريق عمليتين: قمعها وسحقها تحت معول المنظومة الاستخبارية والأمنية التي بناها بإحكام لتحصين نظامه القائم على العائلة والقرية والمقربين أولا، وربط كل فعاليات الاتحادات والنقابات بأجهزته الرقابية والحزبية للجم اي تنظيم مدني سياسي محتمل ثانيا. وفي ضوء ذلك وجدت المجتمعات العراقية، عدا المناطق الخاضعة لإقليم كردستان، ذاتها في العراء، وبلا محددات عمل دولة ولا تنظيم مجتمعي يمتلك خطة تنضبط  ضمن سياق دولة من دون رئيس.   في هذه الظروف وجدت المرجعيات الدينية في العراق نفسها تحت ضغط ان تقوم مقام التوجيه العام نحو الاستقرار في زوبعة الفوضى، متجنبة الخوض في تفاصيل القرار السياسي لا سيما مع وجود الأمريكان في الواجهة، تاركة الفراغ السياسي لتكوين واقع سياسي ملائم ينهي مرحلة احتكار السلطة، ولكن هذا الواقع كان يمر بتحديات جسام لا مجال لذكرها هنا. وعلى وفق هذه التحديات لم تنشأ دولة منشودة، وإنما ترسبت سلطات متعددة تستمد مشروعيتها من سلطة الاقطاعيات التي تعلن عن نفسها في كل مناسبة متاحة، متخذة من الثغرات الدستورية الكارثية مظلة، لا سيما في بنود تأسيس الأقاليم التي باتت عصا تلّوح فيها كل اقطاعية كلما راودها حلم الحصول على غنيمة ما. فالفيدرالية الآن، وبهذه الصورة الدينية / العشائرية / التسلطية؛ حق، ولكنه حق يراد به اقطاعية!  

مقالات أخرى للكاتب