رأي
أي وجع أن تشاهد على شاشة التلفزيون أما عراقية لا تملك غير دموعها تناشد من يعرف سر ما حدث أن يسلمها جثمان الولد.
والولد هذا كان يدرج في أوائل عشريناته يوم تطوع في الجيش، وأبلغوه في دورة تدريب سريعة أن عليه أن يطيع أوامر قادته وألا يتحرك بدون إذنهم. والأم تريد فقط أن تحتضن جسد الولد فتطبع على جبينه قبلتها الأخيرة لتودعه مقبرة وادي السلام، تلك البقعة المهيبة التي تحنو على أجساد ملايين العراقيين الذين غدر بهم حكامهم في كل الأزمان.
أحاول هنا أن ألملم أجزاء الصورة المبعثرة باستعراض معظم التصريحات والروايات التي قيلت، صدقا أو كذبا، علّ من يقرأ يستطيع الامساك بأحد خيوط الحقيقة التي ضاعت بين المزايدات السياسية والمتاجرة بآلام البشر ومصائرهم.
في جلسة مجلس النواب التي استضافت عددا من كبار العسكريين ووزير الدفاع آنذاك بحضور عدد من ذوي ضحايا المجزرة، قيل إن الجنود هم الذين اقتحموا باب النظام ليفروا من المعسكر. ولم يخجل أي من هؤلاء القادة من الرتبة العسكرية التي يحملها وهو يقول بملء فمه إن جنوده نجحوا في الفرار من معسكر شديد التحصين في زمن الحرب. لكن لذوي الضحايا رواية أخرى هي ان أبناءهم اتصلوا بهم هاتفيا كي (يبشروهم) بأنهم منحوا اجازة لمدة أسبوعين يلتحقون بعدها بمعسكر التاجي لإعادة التأهيل والتدريب، وان حراسة وفرت لهم وهم في طريقهم الى بر الأمان.
صعب أن تثبت بالدليل القاطع كذب أي من الشهادتين، لكن من المنطق أن تتساءل هنا كيف أمكن لألف وخمسمائة جندي أن يتفقوا في لحظة واحدة يلقون فيها بأسلحتهم ويستبدلون ملابسهم العسكرية بأخرى مدنية كي يقتحموا معا باب النظام؟
في شريط فيديو انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي وعرضته بعض القنوات الفضائية نشاهد صفا طويلا من شباب بملابس مدنية يسير بتمهل على طريق ترابي ضيق يحرسه بضعة أنفار من رجال مسلحين، قيل لنا إن هؤلاء المسلحين هم الدواعش الذين اختطفوا شباب سبايكر ثم أجهزوا عليهم. لكن، ما هذا الهدوء والاطمئنان الذي يسير به الشباب وكأنهم خارجون في رحلة مدرسية إن لم يكن هناك أحد قد أبلغهم بأن هؤلاء المسلحين هم الحراسة التي وعدوا بها كي توصلهم بأمان الى أهلهم؟ في شريط فيديو آخر نشاهد الحالة الطبيعية لمن وقع في أسر داعش أو غير داعش، نشاهد مجموعة من الشباب تتكدس في سيارة حمل وهم يصرخون ويلعنون من باعهم.
يعلن مشعان الجبوري فجأة قائمة مطولة بأسماء من وصفهم بأنهم مرتكبو الجريمة، وهذا يعني أنه على علم بكل تفاصيل المذبحة وصولا حتى أسماء مرتكبيها. هل سأله أحد عن معلوماته تلك؟ أم أنه لم يؤخذ على محمل الجد لأنه اعتاد على التحول في ولاءاته من القاعدة الى دولة القانون حتى انتهى به المطاف عضوا في مجلس النواب؟
في حديث تلفزيوني لباقر الزبيدي قال إن مذبحة سبايكر لو افتضحت تفاصيلها لتساقطت رؤوس عديدة. لعلها كانت زلة لسان، إذ أعقبها صمت تام، ربما خشية من أن تجر الرؤوس معها رؤوسا أخرى فيفلت الزمام.
تردد على ألسنة العديد من ذوي الضحايا عن معلومات تفيد بأن المئات من شباب سبايكر محتجزون في سجون سرية تنتشر في بغداد وبعض المحافظات الأخرى. لا يفصح هؤلاء الأهل عن مصدر هذه المعلومة، كأن يكونوا قد تلقوا مكالمات من أبنائهم في السجون، ربما خشية على حياة هؤلاء الأبناء. هل تبدو الرواية غريبة؟ لكن هل بقي في هذا العراق ما يثير الاستغراب؟ كنا سمعنا للمرة الاولى بمسألة وجود السجون السرية عندما تم نقل سجناء من أهالي الموصل، قبل سقوطها بأكثر من سنتين، ثم اختفت آثارهم بين الموصل وبغداد. لكن حيدر الملا أعلن يوم الخميس الماضي لقناة البغدادية عن وصول تقرير الى لجنة الأمن والدفاع البرلمانية يفيد بوجود سجناء من سبايكر في سجون سرية.
كل هذه الأجزاء من الصورة لا توصل الى خيط الحقيقة لكنها تؤشر الى إخفاء متعمد لأجزاء منها. ما نعرفه على وجه اليقين أن المتاجرة السياسية بالقضية تشتغل على أكثر من جهة، وأن أهالي الضحايا يراد تضييعهم وإجهادهم في الركض وراء هذا الخيط او ذاك وبين هذا المسؤول او ذاك، كي يصلوا الى النقطة التي يقبلون فيها بشهادات وفاة (فضائية) لا جثامين فيها ولا دلائل فيسدل الستار على إحدى أبشع جرائم هذا الزمان.
أتمنى ان يتقدم عدد من شرفاء المحامين لمساعدة هؤلاء المكلومين في رفع قضايا للبحث عن حقيقة ما جرى، وستكون هذه فرصة للقضاء كي يثبت لنا أنه عادل.
يبقى هناك تساؤل يرد في الذهن: هل كانت مذبحة سبايكر صناعة عراقية ام ان لليد الغريبة دورا فيها؟