رأي
حامل المظلة مجموعة قصصية للؤي حمزة عباس تضم مجموعة من النصوص تبلغ السبعة والعشرين.
يبدو العنوان الشارح أسفل عنوان المجموعة، وهو (قصص وحكايات) موجِها ضروريا للقراءة التي أريدها قراءة خاصة بي. ودعوني أضع لمستي من البداية فاعتبر القصص هي ما يتصل بالشخص الذي يعود على مرسل ذهني هو أقرب إلى المؤلف. وهو يتحدث في القصة عن نفسه بضمير المتكلم. والحكاية هي ما يرويه راو عن غيره بضمير الغائب. وسأبين ذلك فضلا عن فروق أخرى بين القصص والحكايات، من خلال العودة إلى بعض قصص المجموعة.
في قصة (شوارع النظر) المقطع رقم (1) المعنون (عمليتان جراحيتان) يلتقي الراوي بشخص ستُجرى له عملية جراحية ثالثة حاسمة لساقه المريضة، ويقيمان في فندق بانتظار استئناف رحلة الطائرة التي أخرتها العواصف الترابية. ويقترح الراوي على شريكه في الغرفة أن يظل ممددا في السرير ويتولى هو إحضار الطعام له مقابل أن يسليه بالحديث عن عمليتيه الجراحيتين.
في قصة أخرى بعنوان (حيل صغيرة) في المقطع الأول المعنون (ساعات سويسرية وخياطات سمراوات) يتحدث الراوي عن عمه المزواج الذي كان يملك محل خياطة في سوق حنا الشيخ حين كان لا يزال في البصرة. ولكنه تنقل بعدها كثيرا بين المدن، إلى أن عاد مريضا مقعدا إلى البصرة يتحدث في أوقات النشوة عن نساء عديدات فاطيما من اسطنبول، وماري من لندن، وصوفيا. وينادي بأسماء ملوك وأميرات.
وفي قصة (حامل المظلة) يعمل الراوي حامل مظلة في فندق، يفتح المظلة للقادمين، ويصحبهم حتى مدخل الفندق. وهو يرى في إحدى المرات رجالا مسلحين يجرون رجلين مقيدين التفت حول عنقيهما أنشوطتان وسيُقادان ليعدما أمام الفندق.
تلك هي القصص، أما الحكايات فتبدأ بـ(كان هناك). وفي قصة (الرجل الذي قتل) كان هناك رجل يخرج من منزله كل صباح.
هو يؤدي ما تحمله الحكاية من معنى التكرار والثبات، فهو يخرج كل يوم، ويمر بذات الطريق، ويقوم بذات الفعل؛ يرمي حصاة يختارها بعناية على البيت المهجور، ويعود. ولكن هل تستمر الحكاية هكذا إلى ما لا نهاية؟! إنها إن تفعل لا تكن حكاية، ولا تدخل كتاب القصص هذا! إذن فلا بد من أن تنتهي الحكاية. والنهاية قاسية وعبثية، وتنم عن سخافة الفعل الإنساني والمصير الإنساني على السواء. الساكن الجديد الذي يأتي بزوجته المريضة إلى مكان هادئ ومنعزل لكي تنام، يصوب بندقيته باتجاه الرجل الذي يسدد الحصاة إلى البيت لتستقر رصاصتها بإصابة ذكية فوق حاجب العين اليسرى مخلفة نقرة صغيرة لا تبين.
وفي (وقت للتسلية) الحكاية عن رجل الحفرة الذي تُهيأ له حفرة مستطيلة ينزل فيها ثم تردم عليه ليبقى تحتها لمدة خمس عشرة دقيقة، ليعاود الرجال بعدها الحفر بأدواتهم ثم بأيديهم، ويتذكرون المشهد بتفاصيله الدقيقة، ويتحدثون مبتهجين عن نافورة الغبار، وهي تصعد مع أول نفخة من فم الرجل، ذلك ما سيعيدون حكايته مرة بعد أخرى لوقت طويل.
أما الرجل فلا أحد يهتم به، أو يحدّثه قبل نزوله الحفرة أو بعدها، ولا أحد يسأله عن اسمه، فهو رجل التسلية، وذلك اسمه وتلك مهنته.
الحكاية إذن، وهذه طبيعتها القديمة التي تأتي بها إلى المجموعة القصصية الحديثة (حامل المظلة)، لا تهتم بالإنسان، ولا تفكر فيما يشعر به، أو يفكر فيه، فالرجل الذي قُتل لا نعرف عنه إلا أنه شخص مهووس بالتكرار قاده مصير غبي، هو ما توجبه الحكاية على شخوصها، إلى الموت. ورجل التسلية فاعل لفعل مثير للمتعة وللحكي، ولا قيمة له إلى جوار الفعل.
الحكاية عن الحدث أما القصة فعن الشخصية وعن الإنسان ذلك الذي يعطي الحكايات مذاقها وقيمتها مثل العم والجريح وحامل المظلة نفسه الذي يحلم أو يختلق حادثة إعدام الرجلين أمام الفندق، وحتى العم ربما كان يبتكر حكاياته عن النساء اللواتي يدعي معرفتهن، ومثلهما الرجل صاحب العمليتين الجراحيتين الذي يواصل الحديث بدقة وتفصيل كما لو كان يجري العمليتين من جديد.
والناس في القصص خلافا لهم في الحكايات لا يموتون ولا يُحكم عليهم بالموت مقدما، بل يتجددون ويُبعثون ويَبعثون الحياة في الراوي وفي القارئ ويدعوانهما إلى إعادة تأمل الحياة المرة تلو المرة وإعادة صياغتها لتكون أكثر رحابة وأكثر رحمة وأكثر جمالا وأكثر إنسانية.
ما فائدة الحكايات في هذه المجموعة القصصية إذن؟ أولى الفوائد تأكيد قيمة وأهمية القصص، ذلك ما تبديه المقارنة بين القصة والحكاية. وثاني الفوائد ذم الحكاية التي شكلتنا نفسيا وثقافيا، وما زالت، وتسللت إلى قصصنا وسرودنا الحديثة من دون أن ننتبه لتجعل منا عبيدا للأفكار وما يترتب عليها من تكرار للسلوك والحكي، ولتقتلنا رمزيا وفعليا كما نشهد اليوم.
وعموما يظل تمثيل الصراع بين البنى المختلفة والمتضادة داخل المتن القصصي الحديث سمة من أبرز سماته، فهو لا ينتمي إلى القصة أو إلى الحكاية على حدة، ولا يذم الحكاية ويبشر بالقصة صراحة، ولكنه يشير ويمثل لهما ولأدوارهما في الكتاب كله، وعلى القراءة أن تفصح عن المسكوت عنه.