رأي
من وجهة نظر التطورية الفلسفية ان ما حدث مساء الفلانتاين في شارع الجواهري بالنجف أمر طبيعي جدا، ومعروف في سلوك التجمعات الاحيائية تماما كمن يصطحب سجادة صلاة ويفترشها في نادٍ ليلي بمنتجعات الساحل الكاريبي. فحين تشعر المجمّعات البشرية والحيوانية، وحتى الأحياء الأبسط تركيبا، بوافدٍ ما فإن ردة الفعل الأولى هو الريبة والحذر منه، هذا إذا لم تشن هجوما وقائيا لحماية (المجموع)، حيث يندرج الوافد في تصنيف التهديدات الفايروسية التي تدمر البيئة المحيطة وتشكل خطرا على شكل الحياة وفقا للنموذج النفسي التطوري.
لا يرى الفلاسفة التطوريون أمثال دانيال دِنيت فرقا بين السلوك الاحيائي وبين الثقافة وأنماطها السلوكية. هنا تعمل ميكانزمات الدفاع ضد الفايروس المهدد للخلية الذي يتحول في المفهوم الفلسفي التطوري الى الميم. إذ ترى المجتمعات التي دأبت على سياق معين من الأعراف والتقاليد في الوافد خطرا (ميميا) على معتقداتها وأساليب حياتها، فالوافد إذن يزرع عينة من جرثومته الثقافية داخل أبنية المنظومة القيمية بغية تغيير ملامحها لصالح النموذج الأعلى للوافد. وهنا تبرز أعتى وأشرس أنظمة الدفاع والمناعة في سبيل مقاومة التدمير المحدد.
إن ردة الفعل التي أبداها بعض أركان المؤسسة الدينية في هذا الموضوع ليست جديدة، فقد نصبت تلك المؤسسة نفسها منظومة للدفاع عن عقائد مجتمعاتها ضد خطر (التغريب). وتجد هذه المؤسسة في هجومها المقدس هذا واجبا شرعيا بدأ منذ زمن الاحتلالات، ومن الجدير بي هنا ذكر قصة قلق عاشها أحد رجال الدين مع دخول القوات الانكليزية الغازية العراق بداية القرن المنصرم، وكان مصدر القلق كيفية خلق عداوة بين الانكليز والمجتمع العراقي، وسرعان ما تحول القلق الى ارتياح بعد أن وقع السيف وسالت الدماء!
وبالعودة إلى مثالنا أعلاه، قد يتبادر الى الذهن سؤال مفاده لو شهد السكارى على ساحل الكاريبي رجلا يفترش سجادته في نادٍ ليلي فكيف سيتعامل معه المجموع؟ هناك في الأحرى إجابتان، فقد يكتفون بالسخرية منه، كأقصى حد، أو قد يسوقه الشرطة خارجا بتهمة التجاوز على ملكية خاصة! وهذا هو السلوك المتكيف مع النموذج الأعلى للمجتمع المتقدم الذي تحرسه القوانين وسياقات الدولة، لا الفتوى وانفعالات المؤمنين.
خلاصة ما نريد قوله ان حالة التحشيد والتصعيد والمواجهة أصبحت سمة جوهرية في كل مناحي الحياة العراقية مع شديد الأسى، فضلا عن شخصية الفرد والمجتمع، وطالت هذه الحالة كل تفاصيل ومظاهر الحياة، وقيمها، فمن الطبيعي أن لا يُرحب (بالحب المستورد) الوافد، ولا بأعياده، ولا تقويماته.
كلا الطرفين قدما أسوأ ما لديهما في التعامل مع ظاهرة الفلانتاين، وكلا الطرفين كان يعوزهما النضج والمسؤولية اللائقة بمواطنين متساوين أمام المجتمع، فالمحتفلون لم يراعوا التوقيتات ولا الظروف الاجتماعية والوضع العام، ولا بعض أركان المؤسسة الدينية بردة فعلها الشرسة راعت مبدأ (الأبوية) واحتواء أزمة مفتعلة تزيد من التناحر والكراهية، ولا تغاضت على غرار ما يحدث في الكثير من البلدان في المنطقة عن الفلانتاين بوصفه أمرا لا يدعو للقلق.
المستفيد من كل ما تقدم هو الفلانتاين.. الجدل الذي يضعه في الواجهة كونه موضوعا عراقيا يتصدر لائحة المشكلات الكثيرة التي لا تحل بعقلانية ولا بروية ولا منطق.