أعمدة رئيسية
من التجارب الروائية العراقية المشغولة بقضية الوطن والوضع السياسي في العراق وما سببه لأبنائه من مصير مأساوي انتهى بالمنفى، تجربة صلاح صلاح في روايته (أوراق الزمن الداعر).
وهي تجربة تقوم على الانثيال اللغوي ورصف الكلمات أو الجمل التي تعبر عن قلق شخصية الرواية الرئيسة والراوي فيها وتشوشه والضغط النفسي الكبير الواقع عليه، وتعبر عن اضطراب الواقع الاجتماعي والإنساني في العراق، وما أفرزه من إنسان لا يستطيع أبدا المواجهة والمقاومة وتصحيح الوضع لصالحه، فهو إنسان سلبي، كما يقول الراوي عن نفسه في أوراق الزمن الداعر، ومهزوم ينتقم من نفسه قبل أن يوجه سلاحه لمضطهديه وقاتليه.
وراوي الأحداث هو صبي صغير يفقد أباه مبكرا ويعيش في أحضان أمه راحيل اليهودية التي تركت أهلها للزواج من الأب المسلم، وفي أحضان الجدة، وفي بيئة تمارس قسوة شديدة على المرأة؛ فاينانا تحرق حية لأنها ضعفت واستسلمت لأحدهم، والصبي يراقب تفاصيل عملية الحرق. والجدة تهيم في الشوارع مع حفيدها إلى أن تحصل على كوخ صغير في بيت أختها بعد استجداء واستعطاف الزوج السيء أخلاقيا وإنسانيا عبد الرحمن.
وراحيل الأم يكاد أن يقتلها أخوها وتُضطهد من العائلة، لإجبارها على تصحيح خطئها والزواج من يهودي.. وهكذا سلسلة طويلة من النساء يتعرضن للاضطهاد والعنف والاغتصاب من بينهن عاطفة زوجة ابن عبد الرحمن الأكبر التي يتناوب على اغتصابها الأب والأبناء لتنتهي إلى أن تكون مومسا.
ذلك التاريخ من الاضطهاد والعنف يجعل الراوي ينتمي إلى المرأة ويفضلها على الرجال وعلى الرجولة ويعبر عن ذلك صراحة. ويجعله يستفيد منه في تشكيل السرد الذي يتوزع بين فعلي الاستسلام في تماهٍ مع دور الأنوثة المفضل لديه، والتدمير في محاولة للانتفاض على ذلك الدور ورفضه والانحياز لكونه ذكرا.
كل ذلك في مفارقة سردية وفعلية تنبئ عن ضعف الشخصية وقلة حيلتها واضطرابها النفسي والسلوكي غير المبرر وغير المفيد الذي لا يترتب عليه أي صلاح لا للشخصية ولا للجماعة ولا للوطن. فالراوي يجد نفسه مستسلما وعاجزا عن الفعل كليا في المواقف التي يتعرض فيها للاعتداء، وفي الأماكن التي تهدده نفسيا وجسديا بينما تتولد لديه رغبة في الفعل والتدمير في الأماكن التي تمنحه التقدير ولا تمارس ضده أي تهديد.
إنه على سبيل المثال لا يقوم بأي فعل عدائي أو دفاعي في بيت عبد الرحمن السيء ولا يقاوم حتى اغتصاب أحد أبناء الأخير له. ولا يستطيع أن يرد على إهانة زوج أمه في بيتها له، مع أنه يحاول أن يفعل أي شيء ليعبر له عن رفضه وكرهه. وحتى في بيوت الدعارة يفشل في ممارسة الجنس. وفي إحدى المرات يكتفي بسماع قصة العاهرة المغربية التي جاءت لتعيل أطفالها. كما يفشل في محاولته مقاومة العم الذي ينكل به لأتفه الأسباب.
أما في الروضة، حيث يجد الأمان، فإنه كما يقول: كنت أضرب الأطفال وأخرب الصف وأبعثر الأقلام. وفي بيت إبراهيم صديقه تعرف على هادية أخت الأخير جسديا رغم أن البيت أمن له الطعام والثقة والحب. وفي المدرسة يقول: أحمل بيدي عصا كبيرة وأحطم الزجاج. وعن فقير، الطالب الذكي الذي لم يكن يؤذيه، يقول: شاغلته وضربته بعصا على رأسه.
وهو لا يستطيع أن يفعل شيئا تجاه البعث الذي سيعدم أمه بتهمة الشيوعية، إلا الاستسلام للجيش والمشاركة في حرب الثمانينيات. وهو قبل هذا، في مفتتح الرواية، يطلعنا على إنسان - هو الراوي - غريب يتحول إلى مجنون ويتصرف بطريقة مرضية وغريبة مع امرأة التقى بها مصادفة في منفاه، فانتهى بهما المطاف في شقتها.
هل تريد أوراق الزمن الداعر أن تقول: إن الإنسان الذي لم يفلح في وطنه لا يمكن أن يكون سعيدا في منفاه، وإن ثنائية الوطن والمنفى هذه ثنائية نفسية وليست مكانية، ثنائية كامنة في ذات العراقي الذي يواجه سلطة قاسية اجتماعية وثقافية وسياسية لا يملك أمامها إلا الخضوع والانطواء على فعلين متناقضين أولهما استسلامي انسحابي، وثانيهما عدائي تدميري. وإذا كان الأول يدمر النفس ويشوهها فالثاني يدمر العالم. وفي الحالتين تضيع على الذات فرص الاندماج والتعايش والتأقلم والبداية السوية من جديد؟!
هل يريد صلاح صلاح أن يقول للقارئ: إن خسارة العراقي في المنفى أشد من خسارته في الوطن، فهو على الأقل لا يشعر بالتمزق الأخلاقي تجاه بيئته التي يسبب لها الأذى فيما توفر له الأمان. هذا في الرواية، وفي الواقع لا يتماهى معها التماهي النفسي والثقافي اللازم وينصرف بدلا من ذلك إلى بيئته الأم أو الوطن فيعيش آلامه ومشكلاته في تقبل غير سوي وسلبي لقسوة الوطن على الذات وتنكر للمنفى؟!
ربما.. ولكن يبقى أهم ما تقدمه هذه الرواية يكمن في تنبيهنا إلى أن علينا أن نبحث عن إجابات الكثير من أسئلتنا في الرواية. وإننا إذا أصغينا جيدا إلى ما يقوله الروائيون فقد نستطيع ترميم عالمنا الذي مزقته السياسة ومزقته الثقافة ومزقته الحروب. ترميمه بالإصغاء جيدا للسرد، وبفهم الطريقة التي ينتظم بها للتعبير عن تلك الحقبة وإنسانها.
وما يدرينا فقد يساعدنا ذلك في تبادل الغفران بيننا، لنعود جميعا أسوياء قادرين على المواجهة والمقاومة والإصلاح والتغيير عبر الانتماء إلى الضحية، وليس التماهي معها، فذلك يولد استسلاما غير مبرر ويولد انتقاما غير مبرر. إن هذا، في النهاية، درس من دروس الزمن الداعر، وعلينا أن نعيه.