كيف يمكنُ لنا تكوين مقاربة حول ظاهرة داعش التي نشأتْ في سياق سوسيوتاريخيّ معيّن؟. وبصرف النظر عن السياق الطائفيّ في المنطقة، فإنّ ظاهرةَ داعش، هي ظاهرة دورية لا يمضي قرن دون أنْ تمدَّ خرطومَها لتحرقَ الأخضرَ واليابسَ وتعيدَنا إلى الحالة البدائية. وكونها ظاهرةً دوريةً، يعني أنّ لها أساساً ثقافياً معيناً ومنبعاً فكرياً تستقي منه فكرَها الراديكاليّ الوحشيّ. وهو ما نحاولُ، استناداً إلى معطيات تاريخية، أنْ نبيّنَهُ في هذه المقالة.
إنّ هذه الظاهرة، ليستْ ظاهرةً مستحدَثةً كما يظنُّ الكثيرون، إلا من حيث الهيكل التنظيميّ الحركيّ أما الخلفيةُ الفكريةُ فهي تعودُ إلى أخريات القرن الأول الهجريّ عندما تشكّلتْ تلك الدائرةُ الفقهيةُ المغلقةُ لفهم الإسلام؛ أو لسِجْن الإسلام بمعنى أدقّ في نطاق عقلٍ دوغمائيّ، كان كفيلاً بخلق حالة متأزمة بين الإسلام واستيعاب فكرة الاختلاف والتعددية. ففي نهايات القرن الأول الهجريّ، نشأ صراعٌ (فقهيٌّ في الظاهر، حضاريٌّ في الباطن) بين بيئة الحجاز الصحراوية البدوية المغلقة وبيئة العراق التي كانت على تواصل ثقافيّ مع الحضارة البيزنطية في الشمال والشمال الغربيّ ومع الحضارة الفارسية في الشرق.
وقد امتازتْ بيئةُ العراق الثقافيةُ بالتسامح إذْ كان اليهودُ والمسيحيون والسريان أساتذةً لعدد من علماء العراق منذ ظهور الإسلام، فكان لهم تأثيرٌ واسعٌ في صوغ التصورات الإسلامية لاحقاً، كالاختيار والإرادة. هذان التصوران، كانا من التصورات المعروفة لدى المسيحيين الشرقيين في ذلك الوقت. فقد أسّسَ أبو حنيفة (150 هـ) مدرسةً فقهيةً استثمرتْ تلك الثقافةَ القادمةَ من الشرق والشمال الغربيّ فجعلت (الرأيَ أو القياسَ أو الاجتهادَ) أصلاً من أصول الأحكام، وهذه المفاهيمُ الثلاثةُ بمعنى واحد مع أنّ حدودَ الاجتهاد الشخصيّ أوسع في الرأي منه في القياس. لكنّ البيئةَ الحجازيةَ البدويةَ كانت طوال تاريخها قبل الإسلام، تفتقرُ إلى التلاقح الحضاريّ والثقافيّ، وكانت تنظرُ إلى البلدان ذات الانفتاح الثقافيّ والحضاريّ كاليمن والعراق وبلاد الشام نظرةً فيها الكثير من التوحّش والعدوانية، فشنّتْ عليها الغارات البدوية التخريبية المتوحشة المتلاحقة. يصفُ ابن خلدون هذا التخريب بقوله: “أنظرْ إلى ما ملكوهُ وتغلّبوا عليه من الأوطان من لدن الخليقة كيف تقوّضَ عمرانُهُ وأقفرَ ساكنُهُ وبدّلت الأرضُ فيه غيرَ الأرض فاليمنُ قرارُهم خرابٌ إلا قليلاً من الأمصار، وعراقُ العرب كذلك قد خَرِبَ عمرانُهُ الذي كان للفرس أجمعَ، والشامُ لهذا العهد كذلك وأفريقية والمغرب…” فالبدو من العرب، على النحو الذي درسَهم فيه ابن خلدون في المقدمة هم: “أمةٌ وحشيةٌ باستحكام عوائد التوحش”. وهم “بطبيعة التوحش الذي فيهم أهلُ انتهابٍ وعبثٍ ينتهبون ما قدروا عليه”. والبدو، كما يقول ديورانت، كانوا يحتقرون حياةَ الحضر بسبب خضوعها للقانون والتجارة. في ظلّ هذه البيئة البدوية، نشأ مالك بن أنس (189هـ) الذي أسّسَ مذهبَ أهل الحديث على التعصّب في الفهم ورَدّاً على مذهب أهل الرأي؛ مذهب أبي حنيفة وأصحابه. فنشبَ خلافٌ بين المذهبين، أحدهما يقودُهُ مالك وسفيان الثوري والأوزاعي، والثاني يتزعمُهُ أبو حنيفة وأصحابُهُ. أسّسَ مذهبُ مالك موقفاً عدائياً من أيّ وضع للأحكام استناداً إلى الاجتهاد العقليّ الذي تقتضيه ظروف معينة لم يَرِدُ فيها نصّ أو حديث، فانغلقتْ دائرةُ الإسلام على هذا الفهم المتشدّد بوجوب الرجوع إلى الحديث في كلّ صغيرة وكبيرة. فكان مالك بن أنس وأصحابه ممن ساهموا بإغلاق دائرة التشريع على الحديث وحده وإبعاد العقل من أنْ يكونَ مصدراً من مصادر التشريع الإسلاميّ، لا لشيءٍ سوى أنّ البدويّ يحتقرُ إعمالَ العقل مع وجود النصّ، فالمعرفةُ البدويةُ قائمةٌ على المباشرة والتعجّل والارتجال بخلاف المعرفة الحضرية القائمة على التفكّر والتروّي والاستنباط والاستدلال العقليين. وعبر قرون عديدةٍ جرى النظر إلى البيئات الحضرية كالعراق والشام واليمن على أنها رقيقةُ الإيمان بالإسلام، وبالتالي هي أقلُّ فهماً وإدراكاً لجوهر الدين الإسلاميّ فلا يحقُّ لها من وجهة النظر البدوية أنْ تُنتجَ فهماً آخر للشريعة ولعموم الدين،كأنّ الحضارةَ عدوٌّ للدين. وبمرور الزمن، تحوّل ذلك إلى عقيدة تقتضي الالتزام بها في المجتمع البدويّ، وظلتْ تُغرَس المبادئُ نفسُها واللغةُ نفسُها منذ الطفولة في نفوس الأجيال من البدو الأصليين ومن الذين وقعوا تحت تأثير الأفكار البدوية.
وبقيت هذه المنظومةُ التربويةُ الإيديولوجيةُ للجماعة البدوية لا يطالُها التعديلُ، وإذا ما حصلَ هذا التعديلُ على نحو جزئيّ، فهو يصبحُ غيرَ مؤثرٍ وغير مرئيّ أصلاً لدى أعضاء الجماعة البدوية. وبالتالي، يصبحُ التعديلُ إنْ حدثَ، غيرَ مُدْرَكٍ من قبل أعضاء الجماعة، فيمضي من دون أنْ يتركَ أثراً في فكر المنظومة التي أرادتْ أنْ تحتكرَ وسائل المعرفة والتشريع والتفسير.
وفي الوقت الذي وصلَ الفقهاءُ، الذين وقعوا تحت تأثير مذهب مالك وجماعته، إلى طريق مسدود في معالجة الأحداث السياسية الكبرى بعد وفاة النبيّ، كان الحلُّ ينضجُ في ذهن مفكر ألمعيّ من مدينة البصرة هو إبراهيم النظّام الذي كان حَسَنَ الاطلاع على الديانات الفارسية القديمة وفي مقدمتها الديانة الزرادشتية وتفاسير كتابها المقدس Avesta الذي قام زرادُشْت بتأويله تأويلاً عقلياً في التفسير المعروف بـــ: الزند وشروحه في البازند. فوقفَ الفقهاءُ موقفاً متطرفاً من إبراهيم النظّام وعموم المعتزلة الذين جعلوا العقلَ لأول مرة في تاريخ التشريع والتفسير الإسلاميّ أصلاً من أصول الأحكام، وكانوا أولَ فرقة إسلامية تحررتْ من دائرة الفقهاء المغلقة.
وازداد التوحشُ الفقهيُّ عنفواناً لدى أحمد بن حنبل الذي كفّرَ أيّ نزعة فكرية قائمة على تصورات خارج نطاق النص والنقل، فحدثت الفتنُ ببغداد التي ابتليتْ طوال تاريخها بهجمة الفكر البدويّ عليها، فامتلأتْ شوارعُها بالجثث، مما أدى بالمأمون إلى سجن أحمد بن حنبل في قضية خلق القرآن المعروفة. لكنّ المتوكلَ ذا المزاج البدويّ في السياسة أعاد الاعتبار لأحمد بن حنبل ليفرضَ ذلك الفقهَ المتوحشَ الذي سيكون مرجعاً لكلّ الاتجاهات المتوحشة اللاحقة في الفقه والفكر.
ومثلما، أسسّ مالك فقهاً بدوياً منغلقاً على صحرائه، فقهاً جامداً ورافضاً أيَّ نزعة فقهية تجديدية تتشكلُ في نطاق المدن الحضرية، فإنّ أحمدَ بن حنبل أسسَ فقهاً أصولياً راديكالياً يتمركزُ حولَ النصّ وحده لمواجهة خصومه من المعتزلة وعلماء الكلام الذين ارتكبوا، من وجهة نظره، مخالفةً شرعيةً كفيلة بأنْ توصمهم بأنهم جماعةٌ شِركيةٌ محرِّفةٌ للإسلام بما كان يسميه: البدع، وهي بالأصل: مجموعة التفسيرات العقلية والتأويلية لنصوص الإسلام الأساسية.
لقد تركت الطريقةُ التي كان يَنْظرُ بها ملك بن أنس للوقائع والأحداث، وكيفية سنّ التشريعات لها، أثرَها في بزوع صراع بين البداوة والحضارة في اللغة والشعر وعلم الأدب والفلسفة والتفسير، لأنّ الاشتغالَ في الحديث كان متقدماً من الناحية الزمنية على العديد من العلوم. فقد كان معيار جمْع اللغة وتدوينها هو معيار الأخذ عن أهل الوبر [البدو] وترك الأخذ عن أهل المدر [سكان المدن] كما يقول ابن جني في الخصائص، وبسبب هذا المعيار البدويّ خسرَ التراثُ العربيّ ثروةً لغويةً هائلةً من المفردات والاصطلاحات والتعابير اللغوية التي كان يتداولُها سكان المدن، كان يمكن لنا أنْ نعرفَ من خلالها مدى التلاقح الثقافيّ في ذلك الوقت. ولعلها أسستْ ذلك المنهج المتزمت في جمع التراث اللغويّ.
وفي عملية جمع الشعر وتدوينه وروايته، كان الأصمعيّ المعروف ببدويته وأبو زيد القرشيّ والمفضَّل الضبيّ، يدونون اختياراتهم الشعرية على وفق الذوق البدويّ مبعدين كماً كبيراً من الشعر الذي يتعارضُ مع ذوقهم وحساسيتهم الشعرية البدوية إرضاءً للذوق البدويّ للخلفاء العباسيين الذين جاءوا إلى بغداد من قلب الصحراء وعاثوا في الأرض فساداً، ولولا العناصرُ الأجنبيةُ التي شيدتْ صرحَ الحضارة في العلم والفلسفة والأدب والطب والفلك والترجمة والتاريخ وعلوم الدين والجغرافية والهندسة والجبر وعلوم اللسان، ما تشيّدَ ذلك الصرحُ الحضاريُّ ببغداد ودمشق ومصر والأندلس وبلاد المغرب.
وقد ناصبَ الفقهاءُ العداءَ للمتصوفة الذين احتقروا الفقهَ وأطلقوا عليه تسمية: علم الدنيا، واسْتَعْدُوا عليهم الخلفاءَ والأمراءَ، وأوقعوا بهم مجزرة شملت العديد من المتصوفة لا لشيء سوى أنهم خرجوا عن الشروط البدوية في فهم الإسلام.
وأنتجَ لنا هذان المذهبان: (مذهبُ مالك ومذهبُ ابن حنبل) فيلسوفاً تحوّل من فيلسوف عقلانيّ يأخذُ بأفكار الفلاسفة ويطورها إلى فيلسوف مناهض للفكر الفلسفيّ إلى الحدّ الذي كفّرَ فيه جميعَ الفلاسفة واسْتعدى عليهم السلاطين على النحو المفصّل في كتابه: تهافت الفلاسفة، الذي تضمّنَ تلك الرؤيةَ البدويةَ التكفيريةَ التي استفزّت ابن رشد ليوجّه إليه نقداً لاذعاً في كتابه: تهافت التهافت، ويُفنّدَ حججَهُ الواحدةَ تلوَ الأخرى.
وعندما خرجنا من تلك القرون التي تُعَدُّ ذهبيةً في عُرْف المؤرخين وذلك لازدهار العلوم والمعارف التي قام بها الداخلون في الإسلام من الأقوام الأجنبية وتلامذتهم من البيئات الحضرية في العراق والشام ومصر والأندلس. أقول عندما خرجنا من تلك القرون ودخلنا في القرن السابع الهجريّ كان ابن تيمية بنزعته الحنبلية العائدة بقوة إلى تراث السلف البدو يوسّع دائرةَ التكفير لتشمل الفلاسفة والمناطقة والمعتزلة وعلماء الكلام والماتريدية والمتصوفة وغيرهم من المذاهب الأخرى. وإنه لمن المفارقات السيئة أنّ ابن تيمية نشأ في بيئة حضرية لكنّ ثقافته كانت ثقافية بدوية صرفة، فكان له تأثير كبير في القرون المظلمة التي انحدر فيها التعليمُ وتفشت الأميةُ والجهلُ وسيطرَ الأجانبُ على البلاد العربية بعد أفول نجمها بسبب محاربة الإبداع العقليّ بحجة البدع والشرك.
واليوم، حاولَ الإسلام السياسيّ السلفيّ أنْ يُنشئ مجتمعاً دينياً على وفق الشروط البدوية من التوحش والتكفير والانغلاق الفكريّ. فصورةُ المجتمع تتشكلُ، عادةً، بحسب الثقافة السائدة المدعومة من السلطة. ولأنّ الذهنيةَ الاجتماعيةَ غير متحررة في مجتمعاتنا الشرقية، فإنّ تأثيرَ الدين المدعوم بالسلطة يبدو كاسحاً، والدينُ نفسُه يتحوّلُ إلى ممارسة تتحدّدُ في ضوئها علاقةُ الفرد بالسلطة. فالعقد الاجتماعيّ التقليديّ الضامن للمساواة بين الأفراد، يُفرِّطُ، في ظلّ العلاقة الملتبسة بينهما، بأهمّ مبدأ من مبادئه وهو ضمان الحقوق العامة وإنجاز الدولة لوظائفها الأساسية في مقابل أداء الأفراد لوظائفهم والتزامهم بما للدولة من حقوق. وهكذا يتحوّلُ العقدُ المدنيُّ، المستندُ على قيمٍ أخلاقيةٍ عليا، إلى عقد أيديولوجيّ دوغمائيّ ذي صبغة دينية، تضمنُ بمقتضاه الدولةُ – أو السلطةُ في ظل التباس المفاهيم- الحقوقَ الدينيةَ من شعائر مذهبية وأفكار دينية تنتجُ رموزَها الخاصةَ الداعمةَ لهويتها، في مقابل ضمان الأفراد لاستمرار السلطة في الحكم عن طريق الولاء ومنح الأصوات في الحالة الديمقراطية.
حتى الثقافة، تتحوّلُ إلى ما يشبه العقد المقدّس ما بين طبقة المثقفين والقيم المذهبية العليا، إذ يتخلّى المثقفُ عن نزعته النقدية لصالح تلك القيم التي تمدّه بالزخم الذهنيّ لإضفاء الحجج المنطقية على جدله الفكريّ، وتمدّه بالزخم الروحيّ لكتاباته الأدبية، والزخم الرمزيّ لأعماله الفنية. فهذه القيمُ تتجلّى عبر النشاط الروحيّ والنشاط الذهنيّ لطبقة المثقفين. وهذا التجلّي هو صورة العقد المقدس بينهما.
إنّ الظاهرة الطائفية، هي الجزء الفاعل والنشيط في الظاهرة الدينية، ونشوءها يقترنُ بتفكك الظاهرة الدينية الأصلية إلى فروعها المكونة لها، وسبب هذا التفكك هو لتوكيد الهوية المذهبية. ولذلك فإنّ من نتائج هذا التفكك هو إحياء التراث المذهبيّ كلّه؛ الصالح منه لروح العصر والمتعارض معها. لكن من المؤكد أنّ هذا التفكك هو نكسة حضارية؛ لأنه، من ناحية أخرى، يفككُ الأساسَ العقلانيّ لتقدّم الثقافة في المجتمع، الذي يقعُ فريسةَ قيم الماضي وتناقضاته المتعارضة مع قيم العصر الحديث في العلوم والمعارف والآداب والفنون وأسلوب الحياة الاجتماعية.
لقد تكوّن المجتمعُ الدينيّ في التاريخ العربيّ عبر مراحل مختلفة، وكل مرحلة امتازت بمزايا مختلفة عن الأخرى، وكذلك الظاهرةُ الدينيةُ اختلفتْ من مكان لآخر طبقاً لسيادة ظروف معينة، لكنّ المجتمعَ الدينيَّ في العصر الحديث، نشأ في القرن الثامن عشر في بلاد نجد والحجاز على يد حركة بدوية سلفية هي: الحركة الوهابية، التي قامت بإحياء التراث السلفيّ في الشريعة والفقه والفكر. وعلى هذا الأساس، تشكّل مجتمع دينيّ على نمط الثقافة البدوية، وقد رعت الدولة السعودية هذه الثقافة منذ نشأتها وساهمتْ في نشرها في البلدان والقارات مرفقةً الفكرة بالمال فتوسعتْ في صفوف الفقراء والجاهلين حتى توسعتْ واستفحلَ أمرُها وصارتْ لها طموحات سياسية متنامية، فأخذت تركبُ أيَّ موجةٍ لتصل إلى الحكم أو تؤسس الدولةَ الإسلاميةَ المزعومةَ مستثمرةً المالَ والدعم اللوجستي الخليجيّ في حروبها الوحشية التخريبية في العراق وسوريا وليبيا ومصر واليمن.