يبهرني هذا الحماس والتدفق والمثابرة والتألق عند الشباب. لاشك ان الشباب أثمن رأسمال بشري في كافة المجتمعات؛ يحلمون بما لا نحلم به، يغامرون بما لا نغامر به، يكتشفون ما لا نعلم به، يقتحمون ما لا نفكر فيه، بل يجازفون في اقتحام ما هو محضور التفكير فيه. نموذجهم المستقبل لا الماضي، رؤيتهم تتحرر على الدوام من كوابح الموروث، وتجازف بمغادرة الراهن. ينشدون عالما جميلا؛ لا ترهقه أغلال المفاهيم الميتة، والمقولات القاتلة.
تعلمتُ من أخطائي أكثر من صوابي، ومن أبنائي أكثر من آبائي، ومن تلامذتي أكثر من أساتذتي، ومن الشباب أكثر من الشيوخ، ومن اليوم أكثر من أمس، ومن الحاضر أكثر من الماضي، ومن البؤساء أكثر من السعداء، ومن الفقراء أكثر من الأغنياء…
تعرفت عبر تلامذتي وأبنائي على شئ من: آراء فلاسفة حطموا أصنام الذهن التي لم يتنبه لهم المتفلسفون الا بعد عشرات السنين، ومفاهيم مفكرين مغمورين لم يهتم به كثيرون، ومنجز أدباء مجهولين لم تتداول نصوصهم شلل المهرجين، ورؤيا فنانين منسيين مدهشين لم يدرك ابداعهم المعاصرون. قادوني معهم الى قارات عميقة،كثيفة، متنوعة، ثرية،لم أكتشفها من قبل، بالرغم من اني استنزفت عمري بالمطالعة، فمنذ المرحلة الابتدائية لم أبرح الكتاب والورقة والقلم، في حضر أو سفر، في صحة أو مرض، في فراغ أو زحمة أعمال.
أنا قارئ قبل أي شيء آخر، سرقتني المطالعة من الحياة، حرمتني من ملاعب الطفولة والصبا، غيبتني عن الرياضة وانخراط الناشئة والشباب في ملاعب كرة القدم ومسابقاتها. لا أعرف حتى هذه اللحظة التعاطي مع أية لعبة رياضية، لم أنفق أي وقت للكرة، وحينما كان يلح عليّ زملائي في المدرسة مشاركتهم اللعب، كنت أفشل أكثر من مرة في مسك الكرة باحتراف واللعب بها، هكذا كنت مع كرة؛ السلة، الطائرة، المنضدة، فضلاً عن كرة القدم. أنا أميّ في ثقافتي الرياضية، أجهل بداهات الرياضة وفنونها، وطالما كنت مورداً للتهكم من أبنائي؛ حين أستفهم عن تلك البداهات.
رغم مطالعتي الصحافة منذ المرحلة المتوسطة يوميا؛ بيد أني كنت، وحتى هذه اللحظة أنفق كل يوم حدود ساعتين للنظر في الصحافة، بوصفها “مائدة الفيلسوف الواقعي” حسب تعبير هيغل، إلا أن الصفحات الميتة لدي في الصحف هي الصفحات الرياضية.
وحين أدركت الأهمية الفائقة للرياضة في عصرنا، وآثارها الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية والتربوية والفنية وحتى السياسية، حرصت على التعرف على شيء من فنونها ومكاسبها المتنوعة؛ من خلال أبنائي، الذين أقحموا الصحافة والأفلام والملابس والأدوات الرياضية للمنزل، وكأن الرياضة تنتقم من موقفي المعاند لها؛ لتستولي اليوم على فضاء بيتي، وتغطي أشياؤها معظم الغرف والصالات والممرات.
أنا حزين على غيابي عن الحياة، وعكوفي الأبدي بين الأوراق، أنا حزين على حرماني من المتع المختلفة، حزين على هذا النمط من السجن، الذي غيبني على الدوام عن الفئة العمرية التي أنتمي لها، وأجهل أحلامها وتطلعاتها ومشاغلها وجدّها وعبثها.
لو استقبلت من حياتي ما استدبرت منها؛ ربما أنخرط بتجريب ما في هذا العالم، ربما أتذوق متع الحياة ومراراتها الشديدة الغنى والتنوع. ما زلت أفتقر الى خبرة الكثير من تجارب العيش وفنونها العملية، خارج فضاء الورق، والآن أخرج بالتدريج من الورق؛ حيث أدخل فضاء العالم الافتراضي، وأغرق في عوالم الآيباد والآيفون الأنترنيت…إلخ.
ربما لا أستطيع التحكم في مسار حياتي، حتى لو استأنفتها، ذلك أني بطبيعتي كائن مسكون بمتعة الاكتشاف، والبحث عن كل ما يثير الدهشة، التي تنبعث عن كل ما هو اشكالي غريب، مما تتكتم عليه الجماعات والطوائف والأديان والثقافات.
أنا مولع بالهرولة وراء كل ما هو جديد، لا أكف عن سياحتي ورحلتي العقلية القلبية الروحية، نموذجي على الدوام في المستقبل. وربما كان لمزاج السير والسلوك الفكري المتواصل في شخصيتي تأثير بالغ على شغفي بالمطالعة وصحبة الورق، ذلك أن الكتّاب يبوحون لي بما يتكتم عليه المجتمع، ويفضحون ما تمنع التصريح به؛ العادات والتقاليد والمعتقدات ومختلف أنواع السلطات.
المطالعة مهنتي الأبدية، إنها محطة استراحتي، إنها ما يمنحني الرضا، ويحررني من نمطية الواقع، وتكراره الرتيب الممل، هي ما يفيض علي الهدوء، ويثري لحظات يومي بسعادة غامرة.
أما الكتابة، فأهرب منها، لا أتكلفها وأخوض فيها إلا بعناء، إلا حين أخضع لفروض تمليها علي مهماتي في البحث العلمي والتعليم والتواصل مع تلامذتي وقرائي.
في زيارتي لأية مدينة، الأماكن الأشد إغواء لي هي المكتبات، وطالما عبّر بعض رفاق السفر عن تذمرهم من تسكعي في أسواق الكتاب، وضياع وقتهم في أماكن لا تعنيهم ولا تهمهم، وأحيانا يعربون عن استغرابهم، من تكاليف الوزن الإضافي التي أضطر لدفعها لشركات الطيران غالبا، لتجاوز كمية الكتب الوزن المعفو عنه لكل مسافر.
لعل فضيلتي المتميزة تكمن في؛ “أني أعرف ما أجهله”، تنمو مساحة وعيي بما أجهله باستمرار. فمع كل مطالعة لكتاب، أو تعرف على فكرة جديدة، أواكتشاف لعوالم لا أعرفها، أواكتساب خبرة حياتية، تتسع دائرة مجهولاتي.
وذلك ما يحثني على الدوام للهرولة وراء كل كتاب وكاتب جديد، عساني أُضيّق مساحات جهلي الشاسعة، التي تؤرقني باستمرار. أتساءل مع نفسي: لماذا أفتقر لأية ثقافة سينمائية، مما يضطرني للإفادة من ثقافة ولدي علي في هذا الحقل الشديد الأهمية والراهنية؟ لماذا أفتقر لأية ثقافة في مختلف أنواع الفنون؟ لماذا…؟!
ولدت ولادات عديدة في حياتي، وما زلت أولد كل يوم من جديد… أولد كل يوم من جديد عبر أخطائي، أولد كل يوم من جديد عبر تجاربي، أولد كل يوم من جديد عبر مطالعاتي، أولد كل يوم من جديد عبر مجازفتي باستئناف النظر في أفكاري، أولد كل يوم من جديد عبر تهوري في عبور ما هو قار ومغلق في هويتي، أولد كل يوم من جديد عبر مقدرتي على تجاوز ذاتي، أولد كل يوم من جديد عبر ادراكي لتناقضاتي، أولد كل يوم من جديد عبر رؤيتي “القذى في عين غيري والخشبة التي في عيني”، أولد كل يوم من جديد عبر اكتشافي لعجزي وجهلي وضعفي، أولد كل يوم من جديد عبر توطني التراث وتشبعي بمناخاته أكثر من خمسة وأربعين عاما، أولد كل يوم من جديد عبر قراءاتي وهرولتي المزمنة وراء كل فكرة ومفكر وكتاب ومقال جديد، أولد كل يوم من جديد عبر أسفاري الروحية القلبية العقلية، أولد كل يوم من جديد عبر تنوع وتعدد صداقاتي مع المختلفين عقائديا وآيديولوجيا وثقافيا، أولد كل يوم من جديد عبر رحلاتي بين البلدان، …
لكني أولد كل يوم من جديد عبر تلامذتي وأبنائي، بعد أن حررتهم من كافة أنماط التبعيات والعبوديات، ومنها، العبودية لي؛ فحرروني هم فيما بعد من عبودياتي. وأصبحت أستفيق كل يوم، وأنا ألمح أفقا غنيا بالهموم الحارقة والرؤى المشتعلة، حين صارت عقولهم تقصفني بأسئلة مشاغبة مثيرة على الدوام، وحين كنت أرى الى ضمائرهم وهي تكتوي بالغيرة على الضحايا، وقلوبهم تتطلع الى كل ماهو جميل في هذا العالم، وأرواحهم تشتعل بجذوة أبدية لا تنطفئ، تنشد الخير والسلام في العالم. وهم يزعزعون الأساسات، وينتهكون ما أدمنتُ عليه؛ بوصفه أخلاقا، فيثيرون فيّ الرعب والفزع، غير اني أستفيق وأهدأ، لحظة أستحضر الوصية التربوية الفائقة الأهمية للامام علي “ع”: (لا تكرهوا أولادكم على أخلاقكم فإنهم خُلقوا لزمان غير زمانكم).