ليلة 1-2 من آذار مارس 2011، ، وقعت حادثة مطار فرانكفورت، حيث قُتل أميركيان على يد شاب يدعى “أرِد اوكا” ألبانيّ الاصل، مسلم الديانة، يعيش في المانيا .
وبعد ان القي القبض عليه واجريت تحقيقات حول تفاصيل الحادث، كان من اهمها استعراض تاريخ “اوكا” على مواقع الانترنت تبين اهتمامه الكبير في البحث ومتابعة الفيديوات التابعة للمجموعات “الجهادية”، وكان اخر ما شاهده اوكا في نفس اليوم او قبل الجريمة بساعات فلم بُثّ لغرض الدعاية الجهادية من قبل قناة على موقع يوتيوب تابعة لاحدى تلك المنظمات المعنية، يعرض عملية اغتصاب بشعة لامراة مسلمة من قبل جنود أميركان.
وتبين ايضا من خلال متابعة صفحته الشخصية على الفيسبوك تنامي الفكر الجهادي لديه مع الوقت، الى ان انتهى به المطاف الى ارتكاب جريمة ثأر كعمل جهادي لدعم المسلمين.
لم يسبق لـ”اوكا” ان تدرب او حتى زار منظمة ارهابية، كل ما حصل له هو انه تلقى دروس العنف بصورة غير مباشرة من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، ما ولّد لديه تطرفا ذاتيا تنامى مع التقادم.
“اوكا” هو نموذج لضحايا حملات “التجنيد الالكتروني” التي تقودها التنظيمات المتطرفة من خلال أحدث وسائل التواصل في الشبكة العنكبوتية.
حكاية “اوكا” تلك التي جذبت اهتمامي هي احدى عشرات القصص التي قرأتها عند تصفحي ملفات التجنيد الارهابي عن طريق الانترنت، والتي يشير اغلبها الى ان الجماعات المتشددة تستخدم مواقع التواصل الاجتماعي “السوشيال ميديا” كأداة فعالة في ترويج العنف والافكار المتشددة وجمع الاموال اضافة الى مهمة التجنيد سواءً في ارض المعركة او الجبهة الاعلامية.
الامر يعد بديهيا، فمن منا لا يرغب بالحصول على خدمات وفيرة مقابل تكاليف اقرب بالوصف الى المجانية بوجود رقابة متواضعة؟
ان وسائل التواصل الاجتماعي تمثل لدى المنظمات المتطرفة محيطا واسعا لرمي الشباك واصطياد العديد من المشتركين المستهدفين وفق قاعدة بيانات معدّة مسبقا كالمسلمين المتذمرين بسبب إحساسهم بالتهميش في مجتمعاتهم او المجتمعات الغريبة، حيث يفتقدون شعور الانتماء.
تتضمن قوائم التجنيد الشباب بشكل خاص، إذ هم الأكثر رغبة من غيرهم في التفاعل عبر تلك الوسائل، التي تشكل جسرا سهلا لطَرق الابواب الخاصة والخوض في حوارات ثنائية منفردة مع الضحايا وإرسال مقاطع تثير تلك الفئة المستهدفة، ما ينتهي غالبا بتجنيدها بعد اثارة تعاطفها مع تلك المنظمات وكسب دعمها عبر شبكات التواصل على اقل تقدير.
وقد بينت احصاءات كثيرة بأن بعض الاشخاص رغم كونهم بعيدين جدا عن أرض المعركة، او افتقارهم للمعلومات التاريخية والدينية التي من المحتمل ان تستدرجهم الى هاوية التطرف، فجأة يصبحون نشطاء او متطوعين، ومؤمنين تماما بأن هذا هو الجهاد الحقيقي، هذه التغييرات تأتي بالدرجة الاولى “حسب الاحصاءات” عن طريق تجنيدهم بواسطة وسائل الاعلام الاجتماعية.
يعد استخدام المتطرفين لمواقع الانترنت أمرا ليس جديدا، فبعد أحداث 9/11 وحملة مكافحة الإرهاب التي تلت ذلك، انتقل عدد كبير من تلك الجماعات الى الفضاء الإلكتروني، وأنشأوا آلاف المواقع لبث رسائلهم و نشر انشطتهم.
ورغم استهداف العديد من المواقع الإرهابية من قبل المخابرات الأميركية والاوروبية ووكالات مكافحة الإرهاب، والناشطين الذين تتبعوا تلك المواقع وهاجموا بعضا منها، اِلّا ان ذلك لم يجدِ نفعا، فلم يتراجع اصحاب تلك المواقع، وفي كل مرة كان يستعاض عن المواقع المصادرة او المغلقة ببدائل جديدة، حتى ظهرت وسائل الاعلام الاجتماعية وصار الامر اكثر سهولة، فاليوم اصبح حوالي 90 بالمائة من النشاط الإرهابي على الإنترنت يتم عن طريق استخدام خدمات التواصل الاجتماعي، اذ تساعد في حماية هويات المشتركين وتوفر لهم فرصة اجراء اتصال مباشر مع ممثلي التنظيمات المتطرفة لطرح الأسئلة والمساهمة في “جهاد الانترنت”.
إعلام التواصل الاجتماعي والارهاب.. علاقة متناغمة
لعبت وسائل الإعلام الاجتماعية دورا أساسيا في استراتيجية عمل “الجهاديين” في العراق وسوريا، وما وراءهما، وكان لموقع تويتر دور خاص في ادارة الاتصالات عبر مواقع وسائل الإعلام الاجتماعية الأخرى.
فاعتمدت الجماعات المتشددة كتنظيم القاعدة وجبهة النصرة تويتر، وسيلة مهمة لبث افكارها ونشر البيانات الصحفية، والصور، ومقاطع الفيديو حول المعارك في سوريا، مصحوبة بمدائح وشعارات تأبين لقتلاها (او ما تسميهم شهداءها الجهاديين)، فتقدمهم للمتلقي على اعتبارهم قدوة للمسلمين، اضافة الى امتلاكها حسابات او صفحات مماثلة على مواقع يوتيوب، انستغرام، فيسبوك، ومواقع التواصل الاخرى التي تمارس من خلالها النشاطات بمستويات متقاربة الى حد ما.
أما تنظيم (داعش) فاستغل موقع تويتر كأداة اساسية في الترويج عن (بروباغندا داعش) من خلال بث الرسائل إلى العالم واستقطاب كل من هم عرضة للتطرف.
وبفضل تكتيكاته العالية في فن الاستدراج وتزايد اعداد مؤيديه استطاع الحفاظ على ديمومة عمليات التجنيد، واثارة الرعب في شتى انحاء العالم من خلال نشر صور العنف بما في ذلك قطع رؤوس الصحفيين الغربيين وعمال الإغاثة وحرق طيار سلاح الجو الأردني مؤخرا، وغيرها.
ووفقا لدراسة أجريت في “مؤسسة بروكينغز” الأميركية للابحاث والدراسات (والتي تعد السياسات الخارجية من اولويات اهتماماتها)، وصدرت على شكل تقرير مفصل في شهر اذار مارس الحالي، انه مع نهاية عام 2014 تم رصد ما لا يقل عن 46 ألف حساب تويتر يديرها أنصار تنظيم (داعش)، وشكّل اتخاذ انصار التنظيم سياسة نشر أفلام الفيديو العنيفة والمواد الاعلامية لغرض التجنيد معضلة بالنسبة للشركات المالكة للمواقع الرقمية (يوتيوب، غوغل، فيسبوك، وما شابه ذلك)، كذلك الحال مع مدوني الأخبار التقليدية على الفيسبوك، مثلا.
ودخلت تلك الشركات في جدلية حول السماح أو عدم السماح لعرض فيديوات التعنيف كقطع الرؤوس على مواقعها، خاصة بعد ظهور مشاكل شخصية تسببت بها العديد من المنظمات، فتنظيم (داعش) لم يكتف باعدام الصحفيين فحسب، بل هدد العاملين في تويتر والذين يسعون لمنع الحسابات المشجعة على العنف.
واتفقت تلك الشركات على ادخال تعديلات في معايير الاستخدام لمواقعها منذ منتصف شهر اذار مارس الحالي، رغم ان كلا منها لديه سياسات في “شروط الخدمة”، اذ يمنع تويتر “تهديدات محددة ومباشرة للعنف”. ويوتيوب ينص على أنه “غير مقبول نشر مقاطع صادمة ذات محتوى عنيف أو دموي”. ويضع الفيسبوك شرطا يمنع السماح لـ”النشاط الإرهابي” و”الإجرامي المنظم”، كما ينص على أن “دعم أو مدح قادة تلك المنظمات، أو التغاضي عن أنشطتها العنيفة، غير مسموح به.”
تنامي التطرف.. رغم التوقعات والحلول المسبقة
ما تجدر الاشارة اليه انه على الرغم من اهتمام المحللين المختصين بالإرهاب منذ فترة طويلة وصدور نتائج ونظريات مبنية وفق دراسات حول حرب وسائل الإعلام الدولية والتمرد المعولم، إلا ان هذه المشاكل ازدادت حدة في السنوات القليلة الماضية، على سبيل المثال الدراسة التي قدمها في العام الماضي مركز “راند” للأبحاث المتخصص بالبحث في السياسة العالمية بالاضافة الى طرح الحلول الفعالة، كان عنوان الدراسة “التطرف في العصر الرقمي”، والتي تناولت أساليب التطرف الفريدة، ووثّقت فيها نظريات حول سبل التطرف التي تطبّق تفاصيلها من قبل الجماعات المتشددة بصورة مشابهة في عصرنا الرقمي.
كان الهدف من الدراسة تعيين كيفية استخدام الإنترنت، من قبل الافراد في عملية التطرف، وماهية الارتباط بين نشاطات الإرهابي أو المتطرف على الانترنت ونشاطاته في الواقع بعيدا عن الانترنت.
وأجرى فريق البحث مقابلات مع عدد من المتطرفين والإرهابيين المدانين وضباط الشرطة المحققين مع كبار المتورطين في هذه الحالات. وقد تم تحديد هؤلاء الأشخاص من قبل فريق البحث جنبا إلى جنب مع جمعية ضباط الشرطة البريطانيين ووحدات مكافحة الإرهاب في المملكة المتحدة. وشملت الحالات الإرهابية الأفراد سواء من اليمين المتطرف أو الحركات الإسلامية الذين أدينوا في المملكة المتحدة.
وقد تم تحديد الفرضيات الخمس التالية :
الانترنت يخلق المزيد من الفرص لتصبح متشددا.
الإنترنت بمثابة “غرفة صدى”، يوجد للآخرين بيئة تدعم أفكارهم المتشددة، وترددها متمثلة باشخاص مماثلين لهم بالتفكير.
الإنترنت يسرع عملية التطرف.
الإنترنت يسمح بنشر التطرف من دون تواصل بدني.
الإنترنت يزيد من فرص التطرف الذاتي.
وأوضحت الدراسة أهمية جمع الأدلة المباشرة، أو إجراء البحوث الأولية، من أجل بناء قاعدة أدلة، كذلك تقديم توصيات لهيكلة سياسات وخطط التعامل عند استخدام الإنترنت في التطرف، فالانترنت عبارة عن تقنية متمكنة في العديد من المجالات والتوجهات، لذا تحتاج إلى تدخل ذكي من جانب واضعي السياسات لمعالجة التطرف.