عاشَ ابنُ تيمية حياةً داخليةً متزمتةً، وحياةً خارجيةً قلقةً، أما القلقُ فبسبب الاحتلال المغوليّ وهو في السابعة من عمره، وأما التزمتُ فلأنه عاشَ في جوّ أُسَريّ يتزعمُهُ أبٌ من فقهاء الحنابلة ممن كان لا يجدُ في نفسه القدرةَ على عمل أيّ شيء إلا عن طريق مرجعية نصية، فمن الطبيعيّ أنْ لا يجدُ في نفسه القدرةَ على تربية عائلته إلا بالاستناد إلى تلك المرجعية. وعلى هذا النمط من التربية التقليدية المتزمتة، غرسَ في ابنه وأفراد عائلته بدهيةً حنبليةً في أنّ العقلَ الإنسانيّ غيرُ مؤهَّل لتفسير العالَـم إلا بما فسّرَ النصُ المقدّسُ به هذا العالَـمَ.
وهكذا، تربّى ابنُ تيمية في جوّ يَغضُّ من قيمة العقل، وتدرّجَ الغضُّ حتى أضحى احتقاراً وكراهيةً مطلقةً في نفس ابن تيمية الابن الذي سارَ على خُطى والده الحنبليةِ إذْ تلقّى دروسَه الأولى على يد أبيه الذي كان أستاذاً لعلم الحديث في الجامع الأمويّ حيثُ كان الجامعُ هو الجامعةُ في ذلك الوقت. وكان ابنُ تيمية واسمه “تقي الدين” يتمتّعُ بذكاء فطريّ وبحافظة مذهلةٍ وبخضوعٍ أعمى للمنقول على حساب المعقول. وأما لقبُ “تيمية” فهو اسم جدته لأبيه التي تسمّتْ بذلك الاسم نتيجةً لحكايةٍ رومانسيةٍ لأحد أجداده في أيام الحجّ إذ رأى فتاةً باهرةَ الجمال من تيماء فتعلّقَ قلبُه بها وعندما عاد إلى دياره أنجبتْ زوجتُه بنتاً أسماها: تيمية، تعبيراً عن تعلّقه بتلك الفتاة. وكان جَدُّهُ “أبو البركات مجد الدين” أحدَ أئمة الحنابلة الذي لُقِّبَ بــ: “شيخ الإسلام” وكان يُطْلَقُ عليه أيضاً لقبُ: “المجتهد المطلق” بسبب معرفته الواسعة بأصول المذهب الحنبليّ والتزامه المطلق بتلك الأصول. وعلى هذا، كان ابن تيمية الابن الذي تربى في هذه الحاضنة الدينية الأصولية يتسابقُ مع الزمن ومع ذاته ليحتلَّ المكانةَ المرموقةَ علمياً في عالَـمٍ خاوٍ من الروح العلمية والعقلية بسبب نكبة بغداد على يد المغول. تسبّبَ الغزو المغولي بنزوحه مع عائلته ليسكن في دمشق، وفي شبابه شاهد فظائع الاحتلال فتسبّبَ ذلك في غرس عِقَدٍ نفسية في ذاته، وفي مقدمتها تطرّفُهُ ومغالاتُهُ وبغضُهُ للفلسفة والفلاسفة وفي مقدمتهم أرسطو فوصفَ فلسفتَهُ وصفاً لا يَصْدرُ إلا من مخيلةٍ شديدة الكراهية، فقال بأنّ كلامَهُ: “لَحْمُ جَمَـلٍ غَثٍّ على رأس جبلٍ وَعْرٍ، لا سَهْلٌ فيُرْتقى، ولا سمينٌ فيُقْلى”. فقد فهمَ ابن تيمية الفلسفةَ فهماً وظيفياً لتكون خادمةً للدين.
ظلَّ النتاجُ الفكريّ العربيّ إجمالاً منذ القرن السادس عشر الميلاديّ حتى القرن التاسع عشر، نتاجاً دينياً غلبَ عليه الطابعُ المدرسيّ التقليديّ، وذلك لغلبة التيار السلفيّ المتأثر بفكر ابن تيمية في موقفه التكفيريّ المتزمت للفلاسفة والمناطقة وعلماء الكلام والمعتزلة والأشاعرة والماتريدية. وكان يحرّمُ كلَّ تفكير يتعارضُ مع أدلة السلف والنصّ القرآني، فسلكَ طريقَ التطرف في نقد الاتجاهات العقلية في الفكر الإسلاميّ. ووقفَ حجرَ عثرةٍ في تطور العلوم الطبيعية والعلوم العقلية. وكان ذا أزمة نفسية وعقلية كشفَ عنها من خلال بغضه الشديد للمذهب الأرسطيّ وأتباعه من فلاسفة المسلمين كابن سينا والفارابي والطوسي في ما ذهبوا إليه في اعتقادهم بــ: نظرية الفيض.
لقد كان ابنُ تيمية لا يفرّقُ بين المسائل العَقَدية وقضايا “التفكير” وحرية العقل في التفكير والتحليل والتأويل، فانتقدَ كلّ تفكيرٍ عقليّ يسلكُ طريقاً غير طريق السلف. فهو يعتقدُ أنّ استخدام الاصطلاحات الفلسفية والمنطقية في العلوم الإسلامية “منكرات مستبشعة، وما يزعمُهُ المنطقيُّ بالمنطق من مفاهيمَ مثل الحدّ والبرهان ليس سوى فقاقيع قد أغنى الله عنها كلّ صحيحِ الذهنِ، ولقد تمّت الشريعةُ وعلومُها ولم يكنْ فيها منطقٌ ولا فلسفةٌ ولا فلاسفةٌ”. وقد استمرَّ تأثيرُ هذا الفكر طوالَ القرون التي أعقبتْ وفاة ابن تيمية، فكرّسَ بذلك موقفاً مغالياً في التشدّد من الفلسفة والعلوم غير الدينية، مما كان له أثرٌ غيرُ قليلٍ في تخلّف التعليم. وكانت آراؤُهُ وفتاواهُ قيداً على حرية العقل. وينبغي أنْ نشيرَ إلى مسألة مهمة، وهي أنّ المجتمعَ العربيّ الذي جرتْ أسلمتُه طوال قرون من الزمن، ووجدَ في نفسه استجابةً وتفاعلاً مع تعاليم الإسلام من دون نظرٍ وإدراكٍ ووعيٍ وتمييزٍ بين المسائل العَقَدية والمسائل الفقهية في جوّ الأمية وتخلّف التعليم وسيادة الجهل، كانَ هذا المجتمعُ يناصرُ نزعةَ التشدّد ضدّ الفلسفة والعلوم الطبيعية من دون أنْ يمتلكَ الوعي والمعرفة الكافيتين بهذه العلوم. أضف إلى ذلك أنّ تطورَ العلوم الإسلامية في العصر العباسيّ قامَ على وجود طبقة من المترجمين الذين نقلوا العلومَ والمعارفَ عن اللغات الفارسية والسريانية والهندية واليونانية فكانت ترجماتُـهم تُـحَدِّثُ الفكرَ العربيَّ وتُـجَدّدُهُ، لكنَّ انقراضَ هذه الطبقة بعد سقوط بغداد بيد المغول غَلَقَ نوافذَ التلاقح مع الحضارات والثقافات الأجنبية، وخلقَ مفكرين من نمط ابن تيمية الحنبليّ المذهب. وهكذا وجدَ السلفيون من أمثال ابن تيمية الفرصةَ سانحةً لينكفئوا إلى الماضي ويستعيدوا أفكارَه. ولذلك لم يجد المشتغلون في العلوم الإسلامية سوى التلخيصات والشروح والحواشي والتهذيبات والتعليقات والتقريرات على المتون الإسلامية الأصلية. واتخذت هذه التلخيصاتُ والشروحُ والحواشي وغيرها موادَ دراسيةً في المدارس الدينية. ونتيجةً لهذا الابتعاد عن الاشتغال بالمتون والاستعاضة عنها بالفروع، انحسر الإبداعُ والأصالة والابتكار الفكريّ. وبلغَ الانحطاطُ درجةً مخيفةً إذ “أصبح يقال عن كلّ علم لا يُستطاع فهمه إنَّ قراءته غير مستحبة أو مكروهة، ثم ترتقي الكراهة شيئاً فشيئاً إلى التحريم”. وهكذا جمدَ الفكرُ وضعف الخيال و”انقلبت أوضاع التعليم حينئذ من واسع الإطّلاق والبحث عن علل الأشياء، وحقائقها، إلى ضيق التقليد والاكتفاء بالأخذ بظواهر العبارات التي قالها المتقدمون بلا تنقيب عن أدلتهم التفصيلية”.
وقد بقيت العلومُ الرياضية والطبيعية والفلسفية “مهجورة من الأزهر ينظر إليها بنظر السخط”. وكما قال علي مبارك في خططه إن أهل الأزهر نهوا من “يقرأ كتب الفلسفة ويشنون عليه الغارة وربما نسبوه للكفر”.
إنّ الشيء المهم في تأثيرات ابن تيمية، هو أنّ أفكارَهُ كانت موجهةً لتضييق حرية العقل، وجعله تابعاً للدين، وبسبب التخلف الاجتماعيّ والهيمنة الأجنبية، انتشرتْ أفكارُهُ في المدارس الدينية التي كانت تقومُ بمهمة التعليم، مما كان لها التأثير الأسوأ في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية التي وقعتْ تحت تأثير أفكار ابن تيمية في ظل غياب الترجمة والتلاقح مع الثقافات الأجنبية.