صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

ابن زريق البغدادي: أحزان المفارق لمدينة بغداد

يبدو الحديث عن مدينة بغداد، من خلال قصيدة ابن زريق البغدادي، وكأنه محاولة للإجابة عن سؤال الانتماء والهوية. الانتماء من غير تحديد، الذي يبرر الطمأنينة الداخلية للفرد ويسيِّج النفس البشرية من قلق المستقبل المجهول، لأن الهوية المفقودة ليست جواز سفر إلى مدينة ما أو بلد، ولا لغة تبحث عن شاعر ما أو كّاتب.

 

من هنا تبدو المشكلة مأساوية، لأن إحالة القصيدة، أو أي كتابة أخرى، على المكان تحتفظ دائماً بمسافة، هي الزمن المرئي لكي تعلو حالة التناغم بين الماضي والحاضر إلى الحد الأقصى للمشاعر المتوترة الناتجة عن احتمالات التماثل.

 

إن الكتابة عن مدينة، كبغداد، تريد أن تتجاوز الموت إلى حوامل الحياة الثقافية والجمالية والإنسانية الكامنة في تفاصيلها المختلفة قد تفتح ألغازها لقراءة خاصة بها تلغي الأثر النفسي للخراب وتمتص نتائجه.

 

منذ أن اختارها المنصور، القرن الثاني الهجري، واحة رائعة على جانبي نهر دجلة، عاهدت هذه المدينة هذا النهر على أن تخلد بخلوده، وأن تمتد في أعماق التاريخ، منذ أن ارتفعت منارة ساحقة للعلم والعلماء، ومنذ غدت حاضرة مزدهرة لأهلها الذين انزلوها منزلة القلب من الضلوع، فهي المدينة الوحيدة التي تحمي فرحها من خلال إخفاء اوجاعها عبر التاريخ، تلك هي مدينة بغداد التي استعصت على الزمن وعلى الفاتحين والطامعين، الغزاة والادلاء، هناك الكثير من الرحالة العرب الذين زاروا بغداد وأفردوا لها فصلاً في رحلاتهم، منهم على سبيل المثال ابن جبير الذي قال فيها: “هي بين شرقها وغربها كالمرأة المجلوة بين صفحتين أو كالعقد المنتظم بين لبتين فهي تَردُها ولا تظمأ وتتطلع منا في مرآة صقيلة لا تصدأ والحسن بين هوائها ومائها ينشأ”.

 

أما ابن بطوطة، فيقول فيها في رحلته عن هذه المدينة الخالدة حسناً وبهاء: “مدينة السلام وحضرة الاسلام ذات القدر الشريف والفضل المنيف، مثوى الخلفاء، ومقر العلماء، وقد نظم الناس في مدحها، وذكر محاسنها فأطنبوا ووجدوا مكان القول ذا سعة فأطالوا وأطابوا”.

 

وفيها قال القاضي أبو محمد عبدالوهاب البغدادي: “طيب الهواء ببغداد يشوقني/ قرباً أليها وأن عاقت مقادير/ وكيف أرحل عنها اليوم اذ جمعت/ طيب الهواءين، ممدود ومقصور”.
 

وهناك بعض الاستشهادات الشعرية أيضاً للرحالة ابن بطوطة في مدينة بغداد، حيث أقام فيها مدة طويلة خلال رحلته إليها، وهنا نورد بعض الابيات الشعرية التي كان يستشهد فيها دائماً بمناسبة أو دون مناسبة وهي للشاعر نفسه، حيث يقول:

 
سلام على بغداد في كل موطن      وحق لها معنى السلام المضاعف
 
فوالله ما فارقتها عن قلىً لها        وأني بشطي جانبيها لعارف
 
ولكنها ضاقت عليّ برحبها        ولم تكن الاقدار فيها تساعف
 

يبدو لي من خلال هذه الابيات أن الشاعر بالرغم من عشقه الشديد لبغداد وافتتانه بها إلى أقصى حالات الافتنان قد صادف ظروفاً عصية وقاسية حملته على مغادرة هذه المدينة ولكنه في نفس الوقت ظل وفياً لها رغم قسوة الظرف الذي دفعه للاغتراب عنها، ولكنه اغتراب العاشق الذي يشتد به الوجد، وهو على البعد أكثر من اشتداده، وهو على القرب كما أنني على يقين من أن الشاعر قد أدرك جوهر الحالة النفسية التي يحس بها وقد قادته إلى التعبير بمنتهى الجمال عما كان يختلج بنفسه من أحاسيس، وهناك بعض الصور الرافلة بالألق والحسن تتغزل وتتحسر على بغداد التي تؤكد ما ذهبنا اليه من تفسير، والابيات التالية التي لم ينسبها ابن بطوطة لشاعر بعينه إنما درجها كشاهد شعري يتحدث عن فتنة بغداد وجمالها:

 
آهٍ على بغداد وعراقها            وظبائها والسحر في أحداقها
 
ومجالها عند الأصيل بأوجه         تبدو اهلتها على اطواقها
 
ومتبخرات في النعيم كأنما خلق      الهوى العذري من اخلاقها
 
نفسي الفداء لها فأي محاسن في    الدهر تشرق من سنا إشراقها
 

لو تأملنا ملياً في هذه الابيات لرأينا مدى الأسى أو فداحة الالم الذي غمر الشاعر نتيجة فراقه بغداد، ولكن ابن زريق البغدادي، هو الآخر علامة بارزة لأحزان المفارق لهذه المدينة البهية التي ثبت ذكرها في خلد أي من وافديها والمستظلين بنعيمها، ويكفي هنا أن نذكر ابن زريق البغدادي الذي لم يكتب سوى قصيدة واحدة في حياته عن بغداد إثر فراقه، لها حتى عد من (شعراء الواحدة)، وهم الشعراء الذين لم يكتبوا أو لم يشتهروا سوى بقصيدة واحدة حتى أن الكثير من المراجع والمصادر التي تتبعت سيرة هذا الشاعر المتيم بمدينة بغداد قد أجمعت على أن المتأمل في قصيدة ابن زريق البغدادي لابد له من أن يكتشف على الفور رقة التعبير فيها وصدق العاطفة وحرارة التجربة فهي تنم عن أصالة شاعر، له لغته الشعرية المتفردة وخياله الشعري الوثاب وصياغته البليغة المرهفة ونفسه الشعري الممتد والغريب بالامر من أن هذه المصادر المختلفة تضيف أيضاً من أن لا يكون لابن زريق غير هذه القصيدة وبهذا استحق هذا الشاعر فضل البقاء في ذاكرة الشعر العربي كله بقصيدة واحدة وبالمقابل ما أكثر الشعراء الذين لاتعيهم الذاكرة بالرغم من أنهم سودوا مئات الصفحات وتركوا عشرات النصوص وزحموا الدواوين والمكتبات بكتاباتهم الشعرية وفي كل الحالات تظل هذه القصيدة ماثلة أمامنا بوصفها المصدر الأنبل والأرقى للتعبير المتحول لتجربة الشاعر المختزن لهذا القدر الهائل من مبررات عشقه لهذه المدينة، يستهل الشاعر ابن زريق البغدادي قصيدته هذه بمخاطبة زوجته ويناشدها ألا تعذله أو تلومه فقد اثر فيه اللوم وآذاه وأضَر به بدلاً من أن يخفف من لوعته فهو القائل:

 
لا تعذليه فان العذل يولعه قد            قلت حقاً ولكن ليس يسمعه
 
جاوزت في لومه حداً أضرّ به          من حيث قدرت أن اللوم ينفعه
 
فاستعملي الرفق في تأنيبه بدلاً        من عذله فهو مضنى القلب موجعه
 
يكفيه من لوعة التشتيت أن له         من النوى كل يوم ما يروعه

 

كما يذوب ويتلاشى الشاعر رقة ووجداً، وهو يحاول أن يستذكر بغداد التي فارقها والاسف يتوزعه أي توزع ففي هذه الابيات ثمة دهشة تأخذنا اليها حساسية الشاعر اللغوية التي تجاور المعنى والتحشيد الباذخ لجمال الصور التي تتخللها لحظات حقيقية صادقة هي من أكثر ما يحس به الشاعر ضمن سياقات البحث عن الهوية أو الغربة وتداعياتها حين تبطش به وتجعله رهين تلك اللحظات التي تتعاضد مع الالم الشديد الذي يقتحم الشاعر، ولكن الهاجس الشعري لدى شاعرنا يتدارك الحواشي ليصل في نفس الوقت إلى مقاربات فهم ذلك المعنى الشاق المتعلق بسياقات البحث والغربة لذلك أرى أن الشاعر في قصيدته هذه مؤهل لأن يصوغ لنا قراءته الخاصة لموضوعة الهوية والانتماء والغربة بطريقته الشعرية فتلك الابيات من القصيدة أعلاه والابيات التالية تفصحان عن هذه الحالة بمنتهى الوضوح، لنتأمل ما يقوله:

 
استودع الله في بغداد لي قمراً          في الكرخ من فلك الازار مطلعه
 
ودعته وبودي لو يودعني                  صفو الحياة واني لا أودعه
 
وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحى          وأدمعي مستهلات وأدمعه
 
لا أكذب الله ثوب الصبر منخرق          عني بفرقته لكن أرقعه
 

إنها مرارة المعاناة التي تمكنت من الشاعر وهو ينأى عن مدينته بغداد فحق له أذن ان ينعى خطا الغربة التي لم تقده إلا على التشتت والالم والحسرة وأخيراً اجترار الذكرى وتصعيد الندم والممارسة القسرية لموضوعة الصبر وترويضه على أن يستوعب طبيعة المحنة التي يحياها الشاعر حتى وهو يفتعل الاعذار والمبررات لما أقدم عليه خصوصاً وهو ينشد في هذه الابيات قائلاً:

 

بالله يا منزل العيش الذي درست     آثاره وعفت من بنت اربعه
 
هل الزمان معيد فيك لذتنا          أم الليالي التي أمضته ترجعه

 

في ذمة الله مذ أصبحت منزله      وجاء غيث على مغناك يمرعه
 
من عنده لي عهد لايضيعه            كما له صدق لا أضيعه

 

لأصبرن لدهر لا يمتعني             به ولابي في حال يمتعه

هكذا إذن، وكيف لا يكون الامر كذلك والديار البعيدة هي الديار البغدادية والزمن المفارق هو الزمن البغدادي، وكيف لا يكون الامر كذلك وكل من شرب ماء دجلة واستظل بنخيل العراق ظل الأمين للماء والشجر، ألم يقل المعري مرة:

 
شربنا ماء دجلة خير ماء            وزرنا اشرف الشجر النخيلا

 

وهنا أيضاً لا نستطيع أن ننسى أو نهمل ما قاله الجواهري، وهو يتغزل بدجلته رغم كل المسافات والفواصل مردداً:

 

يادجلة الخير يامن ظل طائفها        عن كل ما جلت الاحلام يلهيني
 
لو تعلمين بأطيافي ووحشتها      وددت مثلي لو أن النوم يجفوني
 

وحتى لو بدا لنا هذه الايام أن المسافة مابين بغداد وبيننا بالمعنى الجغرافي طويلة جداً فان مساحة الشعر، قصيدة ابن زريق نموذجاً، والثقافة والجمال توحدنا معاً خصوصاً حين تخاطب ما فينا من حنين مشترك إلى شارع من شوارعها أو مقهى من مقاهيها بحيث يتحول الوهم الذي قد يتلبسنا إلى ضرورة تحل محل الواقع الكونكريتي الذي نحياه لأن وطن القصيدة ليس افتراضياً، بل حقيقة تتجسد من خلال الكلمات التي تقترحها علينا تفاصيل القصيدة نفسها، وتسحبنا إلى داخل ذاتنا لنحصل ولو على صورة وطن، هذه هي أحد اشكال النسيان/ التذكر المؤقت حين تخترقنا الغربة ويحولنا البحث عن هوية ما إلى فتية ضائعين في غابة موحشة.

 

 

 

 

إقرأ أيضا