شدني، يوم أمس، الخبر الذي تناقلته وسائل إعلام عربية ومحلية بينها “العالم الجديد” عن مخترع عراقي شاب، يقطن مدينة العمارة، تمكن من صنع طائرة استطلاع يمكن استخدامها لأغراض عسكرية ومدنية، ومن معدات بسيطة.
الطائرة لم تكلف الشاب ذا الـ30 عاما سوى 2.500 دولار، في حين تبلغ قيمة مثيلتها عالميا 100.000 دولار، بمعنى أنه وفر أكثر من 97% من سعرها الحقيقي.
الشاب، الذي كان يتحدث لفضائية الجزيرة، لم يكن يمتلك ورشة خاصة أو زيا يليق به، أو ينتمي لعضوية مركز للأبحاث العلمية، ولم يدرس في جامعة أو معهد، بل كان يضع اختراعه المثير في الباحة الصغيرة لبيته المستأجر وهي تعج بالرثاثة الممهورة بالفقر.
ليس ذلك غريبا على العقل الرافديني المعروف بإبداعه وخلاقيته منذ فجر التاريخ، لكن الغريب في الأمر أن موازنات البلد الانفجارية لم تتمكن من إهداء هذا المخترع الشاب كرفانا واحدا ليجعل منه ورشة خاصة، أو بعثة دراسية إلى واحدة من أرقى جامعات العالم لصقل موهبته، أو تقدم له منحة مالية مجزية تمكنه من الصمود أمام شظف العيش، أو تتعاقد معه على أقل تقدير، لصناعة نسخ أخرى محدثة من طائرته الرخيصة، كي تضرب عصفورين بحجر واحد، فهي بذلك ستتمكن من رعاية المبدعين والعلماء، مضافا إلى ترشيد أبواب الصرف الحالية التي أوصلتها إلى نسبة مخيفة من العجز تجاوزت الـ50 مليار دولار! بسبب عدم التخطيط الصحيح، والتبذير غير المنصف.
وزير المالية العراقي هوشيار زيباري وضع يده على الجرح، خلال مقابلة أجراها مع رويترز أمس الأول الثلاثاء، ولست في صدد إبداء الرأي حول مجمل ما جاء فيها كم إثارات، إلا أنه أقر بأن التبذير وهدر المال العام هما الصفة الأبرز للوليمة التي تسمى موازنة!
فهل من المعقول أن تنفق الدولة العراقية أكثر من ملياري دولار على سفر مسؤوليها وموظفيها الصغار والكبار، وتهمل جوانب إنسانية أكثر إلحاحا أمثال رعاية الفقراء، وتعديل معاشات الموظفين من ذوي الدرجات الدنيا الذين يتقاضون مبالغ أشبه بالرمزية (تصل إلى ما يقرب من 100 دولار شهريا فقط)، إزاء ما يتقاضاه غيرهم من المسؤولين والمنتفعين من هذه الهبات السخية والسفرات الباذخة، ناهيك عن نفقات التأثيث واستبدال السيارات الفارهة وغيرها من أبواب الصرف المرعبة.
خذ مثلا على ذلك موظفا صغيرا في إحدى الوزارات العراقية كان وما زال يسافر الى أكثر من ست دول سنويا، وكل سفراته مدفوعة النفقات، لمجرد أنه يعمل مع وكيل تلك الوزارة، الذي لا يبخل عليه بالموافقة، مع علمه بأن هذا الموظف لا يملك أدنى مؤهلات تمثيل البلد في المحافل الدولية والعربية! بمعنى أن الدولة لا تنتفع من سفره هذا مطلقا.
فماذا لو قامت الدولة بمنع ذلك الموظف الصغير من السفر لدولة واحدة على الأقل، وحولت مبلغ إيفاده (الذي يبلغ في المتوسط 7 آلاف دولار)، إلى ذلك المخترع الشاب، ألم نكن حينها قد حظينا بطائرتي استطلاع، وأنجدنا ذلك المبدع من خطر الفقر والعوز؟