يعالج فيلم (الاختفاء Hidden) 70 دقيقة فكرة التحول الجنسي بين الرجل والمرأة، ويحاول المخرج التركي علي كمال جنار استلهام ملحمة (مم وزين) الكردية للشاعر أحمدي خاني، لكنه يجسد التناص بأسوأ حالاته كما أرى، أساء إليها أكثر وجود الانتقالات غير المنطقية ودقائق الصمت المملة غير المبررة، فلو اختصر المخرج فكرة الفيلم بوقت أقل، وبتركيز وتكثيف أشد لخرج الفيلم بصيغة اوعى وأشد تأثيرا، ولما ضاع المخرج الى هذه الدرجة، ولم يأخذ مشاهده معه الى هذا الضياع، لا بل نجد أن المخرج حاول استمداد ملحمة مم وزين، لكن غابت عنه فكرتها الأساس، ففي الملحمة الشعرية لم يتحول الذكر إلى انثى ولم يكن ذلك فجأة كما اقترح الفيلم، فضلا عن انه – أي الفيلم – لم يشر إلى الأسطورة بشكلها الصحيح، وانما اقتصر على الاشارة إليها من خلال شخصية الفتاة التي يدخل خطيبها صراع التحول الجنسي، ويشهد تحول امرأة عبرت عمر الثلاثين من انثى الى ذكر، من خلال شخصية الانثى هذه يطرح المخرج قصة مم وزين بوصفها نصا مسرحيا تسعى الفتاة الى الاشتراك بتمثيله على الخشبة مع ثلاثة من زملائها، ويمر الزمن بطيئا في الفيلم وبإيقاعات رتيبة وهو يسلط النظر على تحضيرات المسرحية وبروفاتها.
أما المشهد الختامي فيكون لمجرد تبادل الخواتم بين الشخصين المتنكرين على خشبة المسرح، وهذا الفهم بالاساس اراه فهما مغايرا لما هو موجود في الملحمة التي كتبها خاني، المكونة من 2660 بيتا شعريا يعده الكتّاب نصا مقدسا للقومية الكردية، فضلا عن كونه الاسهام الكردي الأكثر شهرة في تكوين البنية الثقافية العالمية من خلال ما ضمنه الشاعر من معارف فلكية ومنطقية وفلسفية ودينية وموسيقية… الخ صبها الشاعر بقالب شعري نسجه من خيوط رواية شعبية كانت شائعة في كردستان ارتأى ان يهذبها ويشذبها ويصوغها في قالب ابداعي ويجعلها مطية لأفكاره ومنفذا لإفشاء مكنونات صدره وأحزانه (ينظر: الدر الثمين في شرح مم وزين، جتن دوست، سبيريز للطباعة والنشر، 2006: ص37) فالفتاتان في الملحمة يتنكران بأثواب الرجال لغرض معين، ولا يتحولان جنسيا!!، فضلا عن أن الثيمة الحقيقية لملحمة مم وزين هي قصة حب وليست التحولات الجنسية، وهذا ما اضاعه المخرج في لقطاته الباردة، فضلا عن ضياعه في تفاصيل متعددة ومغايرة للهدف الأساس من الملحمة وما تعبر عنه.
ويقابل هذا الفشل في استلهام التراث الكردي نجد فيلما اخر اراه اكثر نجاحا – الى حد ما- في توظيف التراث او حتى روايته، وهو فيلم المخرج شهرام عليدي (ذكريات الجواد الأسود/ 90 دقيقة) الذي وظف الأسطورة الشعبية الكردية اسطورة دلال وقصة الحب الاسطورية بين درويش عفدي وعدولة ابنة الباشا الميللي، وهي ملحمة كردية يطغى عليها البعد القومي، وتحمل لوحات وصورا من الحياة الاجتماعية بمختلف عناصرها من تناقضات وصراعات وحروب وهي في حالتها الكردية تحمل وجهها الخاص الراغب بالدفاع عن ذاته وبقائه آمنا (ينظر: نصوص من الفلكلور الكردي، ترجمة: حنيف يوسف، سبيريز للطباعة والنشر، 2007: ص89)، فضلا عن تفوقه على فيلم علي كمال بالصورة السينمائية المتقنة والدقة العالية، التي ينقل بها المخرج صوره وأفكاره، ولاسيما في اللقطات التي يظهر فييها الجواد الأسود، ومجموعة (الفلاش-باكات) التي يأخذنا اليها المخرج مع جواده الأسود، إذ تأخذ الكاميرا زاوية تصوير ذاتية، لتحل محل عين احدى الشخصيات الاساسية في الفيلم (الجواد الاسود) ونبدأ مع الجواد بمشاهدة الاحداث التي سبق له ان رآها في الماضيمن خلال عينيه، وتستخدم زوايا وجهة النظر عندما يريد المخرج إشراك المتفرج فيما يدور أمامه من أحداث جاعلا منه يرى المنظر من وجهة نظر أحد الممثلين وكأنه يمر بالتجربة الشخصية ذاتها ليتماهى مع الفيلم ويحس كأنه داخل احداث الفيلم إما بوصفهأحد المشاركين في مجرى الاحداث أو انه يحل محل أحد ممثلي الفيلمبحيث يرى الأحداث بعيني هذا الممثل، وتضفي هذه اللقطات الذاتية وقعا دراميا إلى جانب سرد القصة الاعتيادي (ينظر: فن التصوير السينمائي، د. أحمد الحضري، المركز الثقافي العربي للثقافة والعلوم، بيروت: ص69-70) مع ان الجانب السردي يغيب بوصف الشخصية التي يحل المشاهدون محل عينيها هي شخصية جواد غير القادر على السرد بلسانه، الا ان استرجاعاته تقتصر على الاسترجاعات الصورية؛ وعادة يسبق الاسترجاع وحلول المشاهد بدلا من الشخصية لقطة قريبة جدا تعرض وجه الممثل أو الممثلة من أسفل الكتفين مباشرة إلى أعلى الرأس أو تعرض شيئا صغيرا أو جزء من الحركة بحيث يشغل الحيز الأكبر من الشاشة، وأحيانا تكون اللقطة للرأس فقط أو جزء منه فقط أو لوجه الممثل وهو ينظر خارج حدود الصورة، وهنا سوف يستعد المشاهد مدركاان اللقطات التالية هي ما يراه ذلك الممثل، ولقد حل المتفرج محل ذلك الممثل واصبح يرى المنظر من خلال عينيه، وهذا ما يعتمده المخرج عليدي في أكثر من لقطة في الفيلم، عندما نعود مع الجواد الاسود الى مشاهداته الماضية.
وتوظيف الجواد وما يتعلق به في الفيلم أيضا يستمده عليدي من الاسطورة ذاتها، إذ توجد رواية خيالية لاسطورة درويش عفدي يرويها عازف الطنبور (بيتاز) وتسلط الضوء على شكل من أشكال تعامل الخيال الشعبي مع الحكاية، ويرى معد هذه الرواية وناقلها الى العربية حنيف يوسف إنها ساذجة وموجزة يسيطر عليها الخيال الشعبي بأكثر أشكاله بساطة وبدائية، ورغم هذا فهي لا تقل برأيه أهمية عن الروايات الاكثر انتشارا ومصداقية عن درويش عفدي ولا تقلل من قيمتها التاريخية كذلك لها ولأحداثها بل على العكس من ذلك فربما تضيف شيئا وتزيدها ثراء وسعة وغنى(ينظر: نصوص من الفلكلور الكردي: ص100) وما يهمنا في هذه الرواية هو ما يتعلق بالحصان الذي يحصل عليه درويش وظروف تلقيح أمه وحملها به واختيار اسمه فيما بعد إذ يطلق عليه درويش بعد مشاورة الوجهاء والبيطريين اسم (هدبان) والقصة باختصار هي: ان فرس والد درويش تحمل من كائن بحري كبير يخرج من الماء ليجامعها ثم يعود الى الماء، ليعلم الاب بذلك ان هذه الفرس ستلد الجواد الذي يريده درويش وعند موعد ولادتها تلد الفرس وليدا بحجم مهر عمره ستة أشهر إحدى قوائمه الامامية وإحدى القوائم التي الى الوراء بيضاء اللون ليكون هذا الجواد سليل الكائن البحري وكأنه من نسل الغيلان والحيتان فيُختار له اسم (هدبان) لأنه جواد عجيب حدواته تزن أرطالا ومساميرها أوقيات (ينظر تفاصيل أكثر في: نصوص من الفلكلور الكردي: ص39 – 103) وهذا الكائن العجائبي يحضر في فيلم عليدي بوصفه احدى الشخصيات الرئيسة في الفيلم ويحضى بالدور الاهم إن صح التعبير بين مجموع الشخصيات التي أدت دور البطولة، إذ لا تنفرد شخصية ما ببطولة الفليم وإنما مجموعة من الشخصيات تكون بطولة جماعية، تتساوى جميعها في الظهور على الشاشة والعلاقة الابرز هي العلاقة التي تربط بين الجواد الاسود محور الفيلم وجثة الفتاة التي أدت دورها ببراعة الممثلة الشابة ديمن زندي.