صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

اعتذار متأخر

نيابة عن جيل كامل، أعتذر لك، وأعتقد أن الكلمات لن تمحو الكثير بثقل حروفها، لن تكسر بلاغتنا المجوفة، وحقائقنا التي أصابها الغيب

نيابة عن جيل كامل، أعتذر لك، وأعتقد أن الكلمات لن تمحو الكثير بثقل حروفها، لن تكسر بلاغتنا المجوفة، وحقائقنا التي أصابها الغيب. كانت البداية مع الشعارات التي لم تكن على مقاساتنا، تلك التي رددناها لأنها تكفي لتمرير اللحظة دون اعارة أهمية لما سيتبعها من شواظ كراهية وعنف تقافزت من أفواهنا الساذجة. الوقت الرديء أجبرنا على اقتباس أوقات الآخرين وكلماتهم المزيفة. كنت في وقتها تتأمل هجاءنا لك، تهمس لنفسك بالصبر، تتعوذ من رائحة أنفاسنا، وتنظر بعين عارفة إلى الحشود وهي تلوك اسمك كالقثاء. لقد مرّ زمن مرتبك على ما كتبناه في الجدران، حتى أصبحت الكلمات أبوابا لماضٍ سخي ومزولة لشمس لا تدور.

أعتذر لك لأننا لم نفهم صمتك النبيل، فهو عميق على رئاتنا العمياء، كنّا نرى بيتك الصغير في ذلك الزقاق القديم مخبزا لمؤامرات لا تنتهي، ونراك خلف الجدران العتيقة كهلا يتقن الخديعة. تصورنا أنك جبان وليس بين همومك غير تكديس الأموال. تخيلنا أن قراءتك للعالم بالية كمخطوطات لم يعثر عليها بعد. كان الضجيج قاسيا وشتائمنا تمزق الهواء، أما صمتك الذي كنّا نسمعه كما نريد فقد سحق في صدورنا ذخائر المكيدة وصفّق له الشر مكتئبا، ربما لو قلت كفى.. ربما لو استخدمت كلمات أكثر اهتماما.. لتراخت وجوهنا وتضاءلت في أصواتنا المفقرعات.

حينما سقط النظام، لم تعجبك الحشود، لم تتقن يوما ضوضاءها المستفزة، كنت تشير لهم بالهدوء الذي تحب، تلبسهم ثوبك الواسع، فيما بدأ لاعقو العاطفة يمتصون آخر ريقهم ويستنفذون حب الدهماء، الدهاقنة الذين افترشوا بابك لمسوا في حنينك للسلام نعومة تدنيهم، كنت مضطرا لقبول اصغائهم الماكر على أمل تحقيق التوازن الذي في حلمك وليس السيرك الذي يلهو خلف آذانهم، باعة الدم اختطوا باسمك دولتهم على أديم حرثتها الجذور العملاقة، كنت تراقبهم جيدا وتمنحهم فرصة تلو أخرى، وكانوا يهدرون الأرواح وجيوبهم تأخذ مقاس حقوقنا الضائعة. كنّا نظنك تمارس لعبتك القديمة، تصمت أمام الدول المجاورة وغير المجاورة وهي تستخدم ربابنة الضياع في تضييعنا، لكنك كنت تراقب بعين ملؤها الأرق، وتكتمك الساعات والأيام المحسوبة.

لقد جئت من مكان بعيد، أحببت زقاقنا الضيّق وطريقتنا في شرب الشاي، لم تفكر طويلا حين كان عليك أن تختار بين ذاكرة يقضمها النسيان وبين حب يتسع في القلوب، بين مدن لا تحفظ شوراعها ووجوه تعرف تماما متى تبكي ومتى تحلم بالابتسامة. أعتذر لك نيابة عن كثيرين، لقد كنت صادقا في صمتك، وكنّا كاذبين في صراخنا المشروخ.

إقرأ أيضا