صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

الاسلام السياسي.. وصناعة الحكم في بغداد

  في المقالة السابقة قدمنا مسحا سريعا لقوى الاسلام السياسي الرئيسة الحاكمة في البلاد، ويلاحظ اننا لم نتعرض للوضع في كردستان العراق لخصوصيته اولا، ولان القوى الفاعلة هناك هي احزاب قومية وليست اسلامية ولذلك سنفرد لاحقا فصلا خاصا عن الوضع السياسي في كردستان والقوى السياسية فيه ورؤيتنا لمستقبل الاقليم

 

في المقالة السابقة قدمنا مسحا سريعا لقوى الاسلام السياسي الرئيسة الحاكمة في البلاد، ويلاحظ اننا لم نتعرض للوضع في كردستان العراق لخصوصيته اولا، ولان القوى الفاعلة هناك هي احزاب قومية وليست اسلامية ولذلك سنفرد لاحقا فصلا خاصا عن الوضع السياسي في كردستان والقوى السياسية فيه ورؤيتنا لمستقبل الاقليم.

 

عندما سقط النظام في بغداد على يد القوة العسكرية الاميركية في نيسان 2003 حدث فراغ سياسي وامني كبير، إذ أن حزب البعث رغم سقوط النظام بقي هو القوة المنظمة الرئيسية عبر شبكات المخابرات والاجهزة الخاصة ومفاصل في مستويات معينه من الحزب, اذ لم يكن هناك بديل جاهز في الشارع, لكن من جانب اخر وبعد التغييرات التي طرأت على المجتمع العراقي كانت هناك حقيقة جديدة هي ان المجتمعات الشيعية بشكل عام كانت بديلا للنظام في حين ان المجتمعات السنية كانت تعاني من حالة انكماش وسيطرة القوى المعادية للتغيير تحت شعارات مختلفه بعثية او اسلامية, وكذلك بسبب السياسات التي اتبعها النظام في العقدين الاخيرين والتي احدثت اصطفافات خارج المعتاد في العراق، بحيث اصبح النظام سنيا ومعارضيه هم الشيعة، واذ يبدو ان النظام خطط لذلك فان الحقيقة ان النظام فقد خياراته السابقه وتراجع ليتحصن مجبرا خلف الطائفه بعد سقوط علمانيته ووطنيته وقوميته وبقاء الخيار الامني وحيدا دون غطاء سياسي, ورغم ان هذا الوضع لم يمثل الواقع الحقيقي بدقة الا ان الوقائع التي بنيت عليه ادت لان يكون الحقيقة السياسية في نيسان 2003.. وهكذا فان معارضة النظام المفترضه لم تكن حزبا سياسيا، بل طائفة وهم الشيعة رغم مجافاة ذلك للواقع في امور عدة، وقد فرض ذلك ضمن عناصر اخرى ان يكون المعارضون للتغيير هم السنة وبالطبع كان ذلك مناسبا للقوى الفاعلة الجديدة فالاسلام السياسي الشيعي الذي لم يكن له وجود تنظيمي حقيقي على الارض، اذ تمسك بذلك وسوقه لانه اكسير حياته حيث يجعله  (خيارا) اجباريا للكثير من الشيعة و معبرا عن كثيرين لم يختاروه فبدونه كان عليه ان يفعل الكثير ليكون له جمهورا كما ان البعثيين، وخصوصا من تحولوا الى الاسلاميين السنة ناسبهم ذلك جدا لانه يعطيهم مبررا للبقاء في الساحة السياسية بعد فشلهم كسلطة فهم الان يمثلون طائفه, لكن من الضروري التنبيه ان الخلافات المذهبية في العراق كانت دائما موجودة ولها انعكاساتها في عدد من مجالات الحياة، لكن الوطنية العراقية نجحت في الغالب في جعل الاولوية للموقف السياسي المبني على الخلفيات الفكرية والطبقية عدا فترات سياسية معروفة.

 

على الارض لم يكن الشيعة يملكون حزبا سياسيا قادرا على سد الفراغ الامني والسياسي فالاحزاب الشيعية هي هياكل بدون وجود شعبي عدا التيار الصدري الذي لم يكن قد تبلور سياسيا، ولم يكن يملك ميراثا تنظيميا عدا الميراث المذهبي وآلياته في حشد الجمهور, لكن هذا التيار وبسبب الفراغ الامني والسياسي سرعان ما ظهر الى الشارع بكثافة عبر ممارسات ذات طابع اجتماعي وشعارات تعود لمرحلة السيد محمد محمد صادق الصدر دون اتضاح توجه سياسي معين، لكن عودة قيادات الاحزاب الشيعية للعراق وتفاوضها مع الاميركان واستلامها التدريجي للسلطة ومحاولاتها ملء الفراغ حفز الصدر ومساعديه على الاسراع للكشف عن هوية سياسية يستطيع بها احداث تماسك لجمهوره الواسع ومنافسة الخصوم الشيعة, غير ان الاحزاب الشيعية التي شاركت بالعملية السياسية منذ البداية كانت تعاني من مشكلة عدم وجود كوادر وجمهور كافي لملء الدور الذي حصلوا عليه فاضطروا الى ملئه بنفس الطريقة البعثية متمثله بشراء الولاءات عن طريق الامتيازات والوظائف والقرابات حتى وصلوا لتاهيل بعثيين معروفين بادوارهم القمعية وحتى احيانا اكثر من اخرين تعرضوا للتصفية او العزل وهو ماكان البيئة الملائمة للفساد في حين ان الصدريين الذين كانوا في الغالب جماهير من شباب الشيعة المحرومين والمعارضين للنظام على الارض لم تستطع قيادتهم بسبب عدم وجود الخبرة والتجربة ان تنتج أطرا حزبية تستوعبهم وتنظمهم لخدمة مشروع سياسي محدد, لذلك وبسب طبيعة الطروحات الدينية، فقد تسلل الكثير من الدخلاء وباعداد كبيرة الى التيار اما لاهداف شخصية او لاغراض سياسية غير تلك التي يدعيها قادة التيار وهو ما ادى لاحقا الى حدوث ممارسات غير مقبولة كثيرا، ما اتسمت بعنف غير شرعي أثرت على مصداقية التيار بل ولاحقا غيرت من بنيته، خصوصا مع نشوء مصالح لبعض القيادات الصدرية مع بعض هؤلاء الدخلاء، فاصبح التيار كما هي بقية الاحزاب الشيعية مكبا للعناصر الفاسدة والانتهازية معدومة الكفاءات لتكتمل الصورة النهائية لقوى الاسلام السياسي كقوى  طارئةعلى العمل الوطني تتميز بضعف المهارات وانعدام النزاهة وقلة الخبره السياسية والمهنية وعدم وجود خطاب سياسي قابل للتطبيق والقياس لاعتماده فقط على شرعية دينية ومذهبية ورمزية شخوص.

 

كما أشرنا في الحلقة الأولى فان المرحلة السابقة شهدت نهاية الحركة السياسية العراقية وتقاليدها العريقة في العمل بعد تدهور العنصر البشري من حيث الثقافة والتعليم والفكر ما جعله جاهزا لتقبل الفكر الديني المذهبي كحل بديل لكل مشاكله، وهو ما كانت له تداعياته المستمرة من انشطار المجتمع طائفيا وبداية حقبة الراي الواحد التي داعش واحدة من تجلياتها مثلما الدور الايراني المدعوم داخليا على اساس وحدة الرؤية المذهبية وانتهاء الوطنية العراقية نتائج اخرى لها.. ان المشروع الديني لقوى الاسلام السياسي الشيعية والسنية برغم هيمنتها على البلد لم يكن لها ان تنجح بادارته لان مشروعها يتناقض مع كل معطيات البلد الاجتماعية والحضارية والثقافية وتنوعه الثري رغم الممهدات التي عبدت الارض للاسلاميين عبر سياسات العقود الاربعة من حكم البعث, لكن ورغم قساوة التجربة، بل وضحالتها فانه لم يكن ممكنا القفز عليها بعمل ارادي سياسي سيما وان ظاهرة الاسلام السياسي هي جزء من ظاهرة عالمية لها اسبابها العميقة التي تظهر على شكل صراع فكري بين منظومات فكرية تتراجع او تفشل لتحل اخرى محلها وهي عملية غاية في التعقيد لانها ليست مجرد قناعات نظرية تصاغ في كتب اكاديمية وانما شعوب باكملها تتغير وتتغير معها سلوكياتها وممارساتها ومصائرها.. ورغم ان البديل للاسلام السياسي في العراق لا يبدو جاهزا فان من المستحيل على الاسلام السياسي الحالي الاستمرا ر بصيغته الحالية رغم انه يرفض ويقاوم اي تغيير, لكنه سيجد نفسه قريبا مضطرا لتقديم تنازلات ما من اجل يكون الاستمرار في الحكم ممكنا ولامتصاص غضب الغالبية، وعند ذاك ورغم ان التنازلات تبدو تحت السيطرة فانها ستحدث تخلخلا في البناء غير المحكم يمهد لمرحله اخرى ستظهر بها قوى معارضه بعضها من رحم النظام الفاشل, اما اذا اصر الاسلاميون على عدم تقديم اي تنازل فانهم انما يساعدون في خلق القوة التي ستزيل وجودهم وعلى الاغلب بالعنف.

 

لقد اكدنا اكثر من مرة ان الاسلام السياسي في العراق فرض اصطفافات مصطنعة لاتعبر عن حقائق الحياة عندما يكون الشيعي المعدم منذ خلقه يدافع عن الارستقراطية الدينية الشيعية التي تمتص دمه مثلما يفعل بعض فقراء السنة الذين ينتمون للتطرف بالحرب على أشقائهم من فقراء الشيعة لمصلحة أمراء يعتاشون على التاريخ, ورغم ان كثيرين لا يعتقدون بان هذه الاصطفافات مصطنعة ومؤقتة لكنها كذلك رغم رسوخها الحالي فهي تستمد قوتها ليس فقط من التاريخ الذي يلعب دورا استثنائيا في حياة الشعوب المعطلة، ولكن لان ثمة مصالح محلية كبيرة تقف خلف ذلك اضافه الى المصالح الخارجية فالصراع الايراني السعودي يغذي هذا الاصطفاف ويبعد امكانية العوامل الداخليه على الفعل الايجابي.. ان الظروف غير المؤاتية لصناعة البديل لا يجب ان تخفي حقيقة القصور الكبير لدى (القوى السياسية) او الجماعات او الافراد الذين يؤمنون بافكار او عقائد مخالفه للاسلام السياسي، إذ هم احد تجليات الازمة السياسية والفكرية في البلد التي تحتاج اناسا يفهمون المرحلة التي يمر بها البلد واحتياجاتها من خطاب وسلوك سياسيين مع رصد للتغيرات التي تحدث والتفاعل المرن معها ثم رؤيا متجددة للمستقبل.. ان وجود هكذا ادراك امر ممكن ولكنه ليس حتمي فالتاريخ في النهاية صناعة البشر و حتمياته القليلة لا تحول دون دور الانسان الحاسم فيه..واننا اذ نؤكد على العوامل المحلية لحسم الصراع  على السلطة لانتجاهل وجود العوامل الخارجية التي لعبت ادوارا حاسمة على حساب المعطيات الداخلية لكن هذه العوامل في تقديرنا يمكن  ان يتضاءل دورها في المستقبل المنظور حيث ايران بعد زوال خطر وتهديد داعش لن تستطيع اقناع غالبية الشيعة ان مصالح العراق وايران واحدة فحقائق الجغرافية السياسية تؤكد ان الكيان العراقي والكيان الايراني لديهما مصالح متعارضه وان افضل ماتفعله حكومة عراقية مستقله ان تكون علاقات صداقه وتفاهم مع ايران كي يمكن حل المصالح المتعاكسة بالتفاوض وتؤسس لمصالح مشتركة قابلة للبقاء اكثر من المذهب الواحد والرؤية الدينية السياسية الموحدة التي سوف لن تستمر طويلا بالوجود والفعل, كما ان المصالح الاميركية في العراق يمكن ان تتحقق من دون الخضوع لواشنطن في الثوابت العراقية المخالفة وذلك باعتماد سياسة انفتاح ومصالح مع كل القوى الدولية الهامة في الاقليم والعالم مايعطي صانع القرار العراقي هامشا كبيرا للمناورة وخيارات متنوعة وتحصين عناصر القوة الداخلية, وهو ما سيجعل التفاعلات الداخلية هي الاساس في صناعة الحكم في بغداد.

 

إقرأ أيضا