أجرت صحيفة “تركش جورنال” الاسبوعية مقابلة مع فنر حداد بشأن التطورات السياسية والمجتمعية التي طرأت مؤخرا في العراق.
حداد الذي يحمل شهادة الدكتوراه هو باحث متخصص في الجامعة الوطنية في سنغافورة ومعهد الشرق الاوسط، وسبق ان حاضر في جامعات بريطانية مثل جامعة لندن وعمل كمحلل باحث في وزارة الخارجية البريطانية.
تتمحور بحوثه في دراسات الهوية والذاكرة التاريخية والوطنية والازمات المجتمعية والاقليات السياسية. صدر له في 2011 عن دار نشر جامعة كولومبيا في نيويورك كتاب الطائفية في العراق.
١- ما هي التحديات التي تواجه تحقيق مصالحة مستدامة بين الفرقاء العراقيين ووضع اساس سياسي يسمح بقيام دولة عراقية مستقرة، ذات سيادة، تشمل الجميع؟
هناك فقدان لمكون اساسي هو مكون الثقة بين اللاعبين العراقيين. بعد 11 عاما اصبح هذا الامر ينعكس صداه ايضا على مستوى شرائح المجتمع. فضلا عن ذلك فإن بعض هولاء اللاعبين السياسين يحملون رؤية لا يمكن تحقيق توافقا بشأنها سواء تلك التي تتعلق بوضع العراق الان أوإلى أين يتجه. وهذا الامر هو ذاته الذي يجعل من الدعوات التي توجه للحكومة العراقية من أجل التواصل مع أمثال جيش الطريقة النقشبندية غير مجدية، إذ لا توجد في الحقيقة أرض مشتركة يستطيع الاثنان ان يبنيا حوارا عليها، فما بالك بعلاقة بناءة.
في الحقيقة إن بعض شرائح المجتمع السني تنظر بتشاؤم لما آل إليه الوضع بعد عام 2003 وكذلك الحال لبعض اللاعبين السنة لدرجة أن بعضهم في فترة ما كان يرى جماعة تقترف مجارز جماعية مثل داعش أقل الشرين، على اعتبار أن الشر الاخر هو الدولة العراقية.
وسواء شاء العراقيون أن يعترفوا بذلك أم لا فإن بلدهم يشهد اليوم حربا أهلية والتي هي بدورها جزء من ازمة اكبر بدأت في 2003. ومثلما في اية ازمة فإن هناك محركا لذلك، لكني ارى ان المحرك الاكثر أهمية في أحداث العنف في العراق هما الصراع على الهوية و الدولة.
وفيما يخص العراق في جزئه العربي فإن من سمات هذا الصراع هو التصادم المستمر والمتبادل من الطرفين: الدولة ذات الركيزة الشيعية ورفض السنة لها.
وهناك أيضا قوى سياسية منغمسة في هذا التصادم بحيث يصعب ان تنفصل عنه او ان تساند جهود ترمي للخروج من دوامته. هذا هو واحد من التحديات الرئيسية لجهود رئيس الوزراء حيدر العبادي الرامية الى السير بالعراق بعيدا عن حافة الهاوية ونحو ضفة الاستقرار.
فرئيس الوزراء لا يعمل بمفرده بل عليه ان يعمل مع ويرضي قوى هي جزء اساسي من معادلة بناء الدولة ذات الركيزة الشيعية والرفض السني الذي يقابلها.
الامر الوحيد الذي كانت له حاجة ملحة دوما ويبدو أن رئيس الوزراء العبادي ماض في تحقيقه هو أقامة علاقات أفضل مع جيران العراق والعالم العربي.
فبرغم الحزن الذي قد يحمله بعض السياسين العراقيين نحو بعض الدول العربية نتيجة لدورها الهدام أحيانا على مدار الـ 11 عاما الماضية، فانه لا بد من تصفية الخلافات والاحقاد لطي صفحة وبناء علاقات نافعة ومتبادلة، والا وكما أظهرت التجارب على مدار 11 عاما لماضية فان العراق سيظل بعيدا عن الاستقرار من غير النوايا الطيبة للدول الاقليمية.
في هذا السياق، يبدو اداء الحكومة العراقية سببا للتفاؤل حتى الان. داخليا فان التحديات تظل كبيرة والحل ليس كله في مستطاع رئيس الوزراء. فعلى سبيل المثال هناك فراغ متمثل في عدم وجود قيادة سنية سياسية منذ عام 2003. تجلى هذا الفراغ في صيف 2014 مع استيلاء داعش على معظم المناطق السنية في الاجزاء العربية من العراق.
لا تقع مسؤولية ايجاد ممثلية سياسية سنية على عاتق العبادي، بل هكذا امر لا بد ان يتمخض من داخل المجتمع العربي السني وهذا لن يحدث ما لم يحل الصراع داخل هذا المكون بشأن قبول أو رفض النظام الذي افرزته الاحداث بعد 2003 وبشأن اعتبار الدولة وليس فقط الحكومة الحالية، دولة شرعية.
٢- في ضوء مطالب محافظة البصرة بالحكم الذاتي والدعوات المشابهة لاقامة اقاليم شيعية وسنية، ما هو مستقبل مشاريع الاقاليم في العراق؟
يجري الحديث بكثرة عن اللامركزية والفيدرالية هذه الايام وربما تقود بعض الصيغ الحقيقية لللامركزية الى ظهور لاعبين سياسيين سنة والقبول بنظام ما بعد 2003 من خلال توفير فضاء سياسي لهم يستطيعون ان يقولوا انه خاص بهم لكن في ذات الوقت مرتبط بالدولة العراقية.
وفيما يخص انشاء اقليم فدرالي في المناطق ذات الاغلبية السنية، فاني ارى أن واحدة من المشاكل هي وجود فهم مبالغ في مطامحه ربما، بشأن الفدرالية في اوساط من يدعون له.
الكثيرون يظنون أن قيام اقليم جديد يعني انه سيتحلى بنفس وضع وسلطات اقليم الحكومة الكردية. لا اعتقد ان أي حكومة في بغداد ستسمح بحدوث ذلك والسبب في بعض ذلك هو الافتقار الى وجود الثقة الضرورية لتطبيق خطط كهذه.
أما السبب الاخر، فيعود الى ما يمكن أن يثيره هكذا صيغة من اللامركزية من اسئلة بشأن سيادة الدولة ووحدة اراضيها واستقلالها (وهذا الامر ينطبق على أي صيغة من صيغ الفدرالية في العراق بجزئه العربي بغض النظر عن هوية الطائفة)
أما بخصوص البصراويين فعلى على العكس من باقي أجزاء العراق، فهناك علاقة تاريخية تحيط بالبصرة والنزعة نحو انشاء اقليم. غير أنه مثلما هو الحال في باقي أجزاء العراق العربي فأن البصراويين الفدراليين يجدون صعوبة في استمالة الجماهير.
وفي ضوء اهمية البصرة الاقتصادية، فأنا اعتقد أن بغداد ستبذل جهدها لعرقلة اي مسعى لفدرلة البصرة، وسيتضمن ذلك في الغالب تقديم تنازلات اقتصادية وادارية لحكومة البصرة المحلية.
في نهاية المطاف، الدعوات لاقليم حكم ذاتي وفيدرالية في العراق العربي تعتمد على كيفية ينظر الى الحكومة المركزية، وإذا كانت الناس تشعر ان لها حصة عادلة من الكعكة ام لا.
طريقة حكم افضل وتقديم خدمات افضل وعلاقة متوازنة بين بغداد والمحافظات هي الطريقة الاضمن لدحض دعوات انشاء صيغ جديدة من الفيدراليات في العراق العربي.
٣- في ضوء صعود المليشيات الشيعية المدعومة من ايران كيف تنظر الحوزة في النجف لها وكيف ينظر الشيعة القوميون والليبراليون الى التدخل الايراني في العراق؟
عندما ناخذ بالاعتبار حجم التهديد الذي يحيط بالعراق في اعقاب صيف 2004 فاني ارى ان معظم الشيعة يقبلون بالتدخل الايراني وهذا القبول يتباين بين من يقبلون به على مضض باعتبار انه بمثابة “شر لابد منه” الى من يقبلون به كليا على اعتبار انه تدخل من شريك استراتيجي. وكلما ابتعد خطر انهيار الدولة كلما اصبح الاختلاف بين الشيعة انفسهم بشأن التدخل الايراني واضحا. وبالعكس كلما زاد الشعور بالخطر كلما ضاق حجم التباين في الاراء.
في الوقت الحاضر مهما كانت اراؤهم الشخصية فانا ارى ان غالبية الشيعة ينظرون الى ايران على انها جزء لا يمكن الاستغناء عنه في القتال ضد الدولة الاسلامية.
التعارض في الاراء نحو الدولة الاسلامية وايران والحشد الذي بدأ في صيف 2014 هو مثير للاهتمام فقد كشف عن عمق حجم الانقسام في الاراء بشأن شرعية، ليس فقط حكومة المالكي الثانية لكن نظام ما بعد 2003 اجمالا. فكما هو معروف فان المرجعية الشيعية الدينية دعت الى تحشيد شعبي للتصدي للدولة الاسلامية. فيما يخص الحكومة العراقية، فان المرجعية الشيعية و الغالبية العظمى من الشيعة كانوا قلقين من الدولة الاسلامية التي مثلتلهم تهديد لوجودهم ولوجود العراق ككل. بمعنى انها فرضت حالة طواريء على المستوى القومي تستدعي ردا دراماتيكيا مشابها لطبيعة التهديد نفسه.
ورأت شريحة كبيرة من السنة الوضع بشكل مختلف، فسقوط نظام ما بعد 2003 لم يكنيمثل لهم حالة طواريء على المستوى القومي بل كان فرصة مؤاتية. فالبعض من السنة ببداية الامر لم يكن ليرى في احداث صيف 2014 تهديدا لوجود العراق بل فرصة “لتحرير العراق” ومن هنا كان معظم الحديث يدور في سياق ان ما يجري هو عمل ثوار او ثورة عشائرية وما رافقها من انكار مستمر لمركزية دور الدولة الاسلامية في مجريات الحدث.
هذه الاراء صدرت عن رجال دين سنة وسياسين سنة من داخل وخارج العملية السياسية (حتى اسامة النجيفي تحدث عن الثوار والثورة). بالنسبة لي فان التباين في الاراء تعود جذوره الى مسألة شرعية الدولة. الشيعة بغض النظر عن عدم رضاهم عن الحكومات التي جاءت بعد 2003 والسياسيين، فهم يؤمنون بان الدفاع عن الدولة هو واجب قومي مقدس. وعليه فان تقديم الايرانيين ليد المساعدة لا بد ان يلاقي ترحيبا. بالنسبة للعديد من السنة فان الدولة ليست امرا يستحق الدفاع عنه.
بعض العراقيين ينظر بذهول وذعر وتقزز لاقرانه الذين يتقلبون فكرة السماح لايران بالمساعدة في قتال الدولة الاسلامية والبعض الاخر يشعرون بذات المشاعر نحو من يتعاطف ويساند الدولة الاسلامية.
في الحالتين فان اي رأي معارض كان يصنف ضمن اطار الخيانة وهذا شاهد على عمق الانقسام بشأن الملامح التي يمثلها العراق وتلك التي تمثل القومية العراقية.
٤- العديد من الجماعات العراقية المسلحة تقاد او تتأثر بشخصيات دينية فما هو تقيمك لاثر صعود (رجال الدين المقاتلين) على الهوية الدينية في البلاد؟
هذه ظاهرة غير جديدة البتة. انا اراها في تزايد وانتشار لامر موجود بشكل او باخر منذ سنوات ( المجلس الاعلى وبدر وهما كيانان متداخلان لنظام ما بعد 2003 لا يمثلان مثالا عن رجال الدين المقاتلين؟)
هذه الظاهرة هي جزء ونتاج لتدهور الاحداث منذ صيف 2014 . لا يوجد شك ان العلاقات المجتمعية قد سرى فيها السم هي الاخرى منذ سقوط الموصل. ظاهرة (المعممين المقاتلين) التي ذكرتها هي من اعراض، لا اسباب، التحشيد الطائفي على الهوية.
بالطبع فان رجال الدين المقاتلين الى جانب عوامل اخرى حاضنة تسببت في المزيد من الخلط في المفاهيم بشأن الدولة مع تلك المتعلقة بالهويات الاثنية و الدينية.
من جهة، فان من الصعب تجنب ذلك في ظل حقائق تفرضها 11 عاما من طبيعة التهديد الطائفية (كما عبرت عنه بشكل واضح رسالة الناطق باسم الدولة الاسلامية العدناني اثر سقوط الموصل)
من الصعب ابقاء الهوية الطائفية خارج المعادلة عندما يتوعد العدو بارتكاب مجازر طائفية.
من جهة اخرى فان من الطبيعي ان يعقد ذلك القتال ضد الدولة الاسلامية، عندما يرتبط الدفاع عن الدولة بالدفاع عن شيعة العراق. هذا قد يفسر هذا لماذا العشائر السنية والمناطق التي تحارب الدولة الاسلامية هي الاسثناء وليست القاعدة.
أجرى المقابلة عمر فاروق توبال
نشرت المقابلة اولا في شباط فبراير الحالي في صحيفة Analist Monthly Journal الناطقة باللغة التركية. والنسخة العربية ترجمت عن الانكليزية إثر نشرها في صحيفة Journal of Turkish Weekly.