صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

التنويري والسياسي

علم الدين (1882) لعلي مبارك (1823-1893) واحد من الكتب المبكرة، في سياق الدعوة إلى النهضة العربية، التي اعتمدت أسلوب الحكاية والتمثيل والسرد لإنتاج موقف فكري ونقدي من حال العرب آنذاك، والمصريين خاصة، والموقف من الغرب

علم الدين (1882) لعلي مبارك (1823-1893) واحد من الكتب المبكرة، في سياق الدعوة إلى النهضة العربية، التي اعتمدت أسلوب الحكاية والتمثيل والسرد لإنتاج موقف فكري ونقدي من حال العرب آنذاك، والمصريين خاصة، والموقف من الغرب.

 

ويؤكد مبارك في مقدمة كتابه (4 أجزاء) أهمية الحكاية في أنها تعلم القارئ من غير أن يشعر بالسأم والملالة التي ترافق التعليم الاعتيادي والمباشر. وأنه لذلك اتجه إلى أسلوب الحكاية اللطيفة التي ينشط إليها الناظر ويرغب فيها ويستفيد منها ما يريده المؤلف له من فائدة جمعها ((من الكتب العربية والافرنجية في العلوم الشرعية والفنون الصناعية وأسرار الخليقة وغرائب المخلوقات وعجائب البر والبحر وما تقلب نوع الإنسان فيه من الأطوار والأدوار في الزمن الغابر وما هو عليه في الوقت الحاضر وما طرأ عليه من تقدم وتقهقر)). والغاية من جمع هذه العلوم والمعارف واستعراضها عبر إطار الحكاية في كتاب مطوّل جدا، هي تنبيه قريحة القارئ واستنهاض فكره ((لإعمال عقله وامعان نظره واستعمال بصر بصيرته في نقد الأمور وسبرها وتدبرها ومقارنتها والموازنة بينها والتمييز بين الخير والشر والنفع والضر وتخير النافع والأنفع والحسن والأحسن منها)).

 

أما الحكاية فهي عن عالم دين أزهري اسمه علم الدين، ربي تربية دينية نهج فيها نهجا أراده له أبوه. ولكنه وبفعل تغيّر الزمن وتطوره يواجه صعوبة إقناع زوجته بغاياته الأخلاقية البعيدة المتمثلة بالحفاظ على العلوم الدينية وتحمل الفقر والتأخر، في سبيلها، وقبوله لنفسه ولعائلته. فهذه النظرة المثالية لم تعد مقبولة في عالم متطور متغير يحتاج الإنسان فيه إلى أن يتحرر من نظرته التقليدية ويتحرك تجاه الحياة الحديثة، وتجاه الآخر ليتحاور معه على أساس علمي – غير ديني – وإنساني يكفل للجميع التعايش والتطور. وهذه الخلاصة الأخيرة هي ما تفلح زوج علم الدين في إقناعه به ليقبل بما يعرضه عليه أستاذه الأزهري من مرافقة رجل انكليزي حضر إلى مصر بقصد تصحيح نسخته من كتاب لسان العرب على عالم من علماء العربية مقابل ((راتب كاف يرضيه ويعوضه تعبه ويضاعف له الأجر إن اقتضى الحال سفره من مصر إلى بلاد الإنكليز معه)).

 

ويسافر علم الدين، مستصحبا معه ابنه برهان الدين، مع الانكليزي. وفي أثناء الرحلة يشرعان في تعلم الانكليزية ويتبادلان، وتحديدا علم الدين، مع الانكليزي معارف شتى معظمها حديث يدور حول الصناعة وأثرها في تطوير حياة الإنسان ومدنيته وحضارته وتجارته وزراعته وثقافته، ويتبادلان المعارف الدينية والتاريخية والثقافية.

 

وينطلق علم الدين في موقفه من الانكليزي من أساس ديني شرعي يوجب على المسلم أن يطلب العلم، وأن يأخذه من أي مصدر، على أن يتمسك بدينه وبما يراه من شروط دينه. ولذا يظهر علم الدين متخذا موقف الإصغاء الكامل والتسليم والقبول من غير نقاش من الانكليزي فيما يتعلق بالعلوم الحديثة، وكثيرا ما يبادر هو إلى السؤال، بينما يتخذ وضع المناقِش والمجادِل والراد على الآخر في ما يتعلق بالدين وما يتضمنه من أوامر ونواهٍ خاصة تلك التي تتعلق بالمرأة، فهذه الأخيرة ضعيفة تحتاج إلى قوة الرجل، ويجب أن تصان لأن في تبذلها إلحاق ضرر بسمعة الرجل وكرامته. وما جاء من ضرب لها وردع في القرآن وفي الأثر إنما هو على وجه التأديب والحرص عليها وعلى من يكلف بالقيام بها من الرجال، وليس في ذلك مساس بحريتها وبحقوقها كما يرى الانكليزي الذي ينطلق، كما يرى علم الدين، من تقاليد مجتمعه التي تبيح اختلاط الرجال بالنساء ويتساهل في مجالستها ومحادثتها ونوع لبسها.

 

وعلم الدين حين يوازن بين حال الشرقين والغربين في التعامل مع النساء يرى ((أن عوائد المشرقيين أجمل وأكمل لأنها أعون على حفظ الشرف وأصون للعرض من أسباب التلف… وأن عادات المشرقيين أرجح ورأيهم في احتجاب النساء عن الرجال أصح وأصلح إذ ذلك مما يوجب ائتلاف المرأة بأهلها ويؤكد ارتباطها بزوجها وارتباطه بها وأمنه عليها ورضاها بحاله بخلاف ما إذا كانت تنظر لغيره في جميع الأوقات… فإن ذلك قد يحرك عندها الشهوات ويجدد لها لوازم ربما أوقعت بينهما المنازعات والمخاصمات فيؤول الأمر إلى الفرقة وخراب المنزل وانقسام العائلة)).

 

وما عدا الأوامر والنواهي الصريحة الواردة في الشريعة الإسلامية لا يجد علم الدين أية مشكلة في التعامل مع الآخر والإفادة من معارفه وعلومه ومدنيته خصوصا وأنه يعلم تمام العلم أن الاعتكاف على العلوم الدينية السائد عند المسلمين والمصريين تحوّل إلى تقليد خال من الفائدة العملية كما ابتعد عن روح الإسلام الداعي إلى التطور والتعلم.

 

يأتي كتاب علم الدين منسجما مع التوجه التوفيقي الذي تبناه المثقفون المصريون من ذوي الأصول الأزهرية. وهو توجه تبناه حاكم مصر محمد علي الذي أراد دولة يكون عقلها إفرنجيا وروحها أو أخلاقها إسلامية، وهو يريد من ذلك فرض قوته على محيطه بالعقل وفرض سلطته على المصرين بالروح، فلا يكون التطور أو التحديث منفلتا بل يجب أن يكون تحديثا عسكريا وهندسيا وثباتا ثقافيا فلا يظهر وعي أو نقد أو فكر متمرد كليا يتخطى الحدود بين المرأة والرجل، أو بين العام والخاص من الناس، أو بين الحاكم والمحكوم انتهاء بتقويض النظام الثقافي أو السياسي القائم الذي يريد تحديثا يقويه وليس تحديثا يقضي عليه.

 

إقرأ أيضا