يشعر القارئ لكتب النهضة العربية المبكرة أنه أمام أكثر من مشكلة منها أن عليه أن يتحدث عنها هي، أي تلك الكتب، لا عن نظريات قد تبدو أكبر منها تعود إلى السياق الغربي. وهم طبعا جميعهم، أعني كتّاب القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، لم يخفوا، بشكل أو بآخر، احترامهم وتقديرهم للأنموذج الحضاري والثقافي الغربي، ورغبتهم في الإفادة منه، ولكنهم مع ذلك ربما يصعب أن يقال عنهم أنهم تنويريون بالمعنى الدقيق للكلمة، وبما تتضمنه من تحكيم العقل في جوانب الحياة المختلفة دينية وثقافية وسياسية واجتماعية ومن دون حرج أو محاباة أو توفيق بين هذا الجانب وما تحتاجه النهضة من تحرر من أي حائل يحول دونها أيا كانت طبيعته أو مصدره.
ولكي أكون أكثر قربا من أحمد فارس الشدياق (1804-1887)، موضوع هذه المقالة، وكتابه “الساق على الساق فيما هو الفارياق” (1855)، أقول إنه كان في مواضع كثيرة من الكتاب يشير إلى خصال الأوربيين الحميدة، ويتمنى أن تُتخذ أنموذجا لدى العرب، وخاصة تلك التي تتعلق بحرية التعبير، فهم لا يقدسون رجال الدين، ويبرزون للناس عيوبهم وأخطاءهم الكثيرة، من غير أن يتعرضوا للغضب العام، أو لانتقام رجال الدين كما حصل للشدياق نفسه الذي اضطر إلى هجر بلاده إلى مصر هربا من ملاحقة رجال الدين له، وكما حصل لأخيه الذي حُبس وعُذب وقُتل لتركه المارونية.
ويشير الشدياق إلى أخلاق الإفرنج وثقافتهم الحميدة ويقارنها أحيانا بما عند العرب من عادات غير محمودة كدعوة المدعو من يجده في طريقه دون استئذان صاحب الدعوة أو الدار، فعدم جلب المدعو أحدا معه ((عادة الإفرنج، أما في مصر فيمكن للمدعو أن يستصحب أيا يشاء. وللمستصحب أيضا إذا لقي واحدا في الطريق من معارفه أن يستصحبه، ولهذا أيضا أن يستصحب آخر وللآخر آخر حتى يصيروا سلسة أصحاب)).
ويشير المؤلف أحيانا أخرى إلى صفات الإفرنج الحميدة من دون مقارنة ((ومنها أنه إذا زار أحدهم خليلا ورآه مشغولا رجع على عقبيه من حيث جاء فلا يقعد ينتظره حتى يفرغ من شغله، بل لو وجده متفرغا خفف عنده ما أمكن. وإذا رأى على مائدته كراريس أو صحفا لم يتلقفها ليقرأ ويفهم مضمونها… ومنها أن أحدهم لا يتزوج امرأة إلا بعد أن يراها ويعاشرها. وأنهم يبوسون أيدي النساء ووجوه بناتهن وما يرون في ذلك معرة أو انحطاط قدر)).
وأحمد فارس ينتقد طبقة رجال الدين في المجتمع، فهم يقفون كالسد المنيع دون انتشار العلم والمعرفة ويحتالون بكل وسيلة ليبقوا الناس أميين حتى يضمنوا انقيادهم وولاءهم وخضوعهم ويكونوا عالة عليهم، فالدين صنعة من لا صنعة له، بل هو الصنعة الرائجة عندنا، ((إذ لا صنائع في بلدنا يمكن للإنسان أن يتعلمها ويعيش منها)) غيره. ويقع فيها لأصحابها ما يقع بين أهل الصنائع الأخرى من تحاسد وتباغض ونفاق ورياء وطمع ((فانظر إلى هؤلاء العبّاد فانك لا ترى فيهم إلا خبيثا منافقا وجاهلا مائقا وندر وجود الصالح بينهم. أما العلم فهو محرم عليهم كلهم)).
ولكن هذا النقد الصريح لرجال الدين أو الرهبان لم يكن يأتي في سياق بعيد عن التجربة الشخصية، حتى أن الكتاب كله أقرب إلى تجربة شخصية عاشها المؤلف. ولم يكن يخلو من توفيقية انعكست سلبا على الدعوة إلى التنوير ولم تعد على كتاباته بالفائدة المرجوة، فالشدياق، بينما يشير إلى محاسن الغرب، يرفض تقليد العرب لهم فيما يعده رذائل ((فمنهم، أي العرب المتبنين للمنهج الافرنجي في الحياة، من يلبس النعال الإفرنجية ويطأ بها وسادك هذه العربية، أو يرخي شعره كشعر المرأة… ومنهم من يمدّ رجله في وجه جليسه إذا قعد ومنهم من يأتيك زائرا ولا يبرح ينظر في كل هنيهة إلى ساعته إشارة إلى أنه كثير الأشغال)).
والشدياق فيما يدعو إلى العلم ويدعو إلى القراءة يميّز في هذه الدعوة بين المرأة والرجل، فهو ينظر إلى المرأة نظرة تقليدية متوارثة لا أثر فيها للعصر الحديث وللاطلاع على ما عند الغرب، فهي في نظره تميل بالطبع إلى الشطط ومجاوزة الحد، وهي تميل مع الهوى وتتمادى في المشاعر والأفعال والرغبات. ولذا إن كان لا بد من تعليمها فيجب أن يقتصر ذلك على القراءة التي تسهل لها ((مطالعة الكتب التي تهذب الأخلاق)) لا غير.
والموقف التوفيقي نفسه يتخذه الشدياق من الدين فعليا. إذ مع كل عيوب الرهبان والقساوسة، فالواجب أن ننتبه إلى أن الدين شيء آخر غير ما يقومون به، فالله لم يأمر بالرهبنة ومنع النفس من الطعام والزواج، ولم يأمر بالجهل ((وإن دين الجهل ليس عند الله بشيء)).
وهذه المواقف التوفيقية تبعد الكتاب عن ممارسة تأثيره المطلوب في النهضة والتنوير، وتضعف ثقة القارئ به. وهي لا تحقق للكاتب الهدف المرجو – وهو أن يكسب ذلك القارئ إلى جهته ويحقق ما يظن أنه تغيير جزئي ضروري، وخير من عدم إحداث أي تغيير – فالكتّاب وخاصة الشوام، والشدياق منهم، ظلوا، كما يقول الناقد والباحث المصري الدكتور عبد المحسن طه بدر، بعيدين عن التأثير في القرّاء، فهم في نظر العامة ملحدون ويكرهون الإسلام ومتأثرون بنظريات الغرب الكفرية كنظرية دارون وغيرها.
وفي النتيجة ظلت معظم الكتابات العربية المبكرة، ومنها كتاب الساق على الساق، متواضعة الأثر لترددها بين حلم التحديث واشتراطات الواقع. والأخطر من ذلك كله أنها سنت سنة سيئة، هي التوفيقية، عملت على تعطيل النهضة من جهة، ومن جهة ثانية خسرت ثقة القارئ بالكتابة النقدية سواء أكان القارئ تقليديا أم تنويريا، إذ كلاهما لم يجد في الكتاب والكاتب ضالته.