صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

الثقافة العراقية وآفاقها المستقبلية

 

1

 

ترتبط الثقافة بهّمٍ معرفي ..

 

أمور كثيرة تحصل الآن في عراق اليوم على الصعيد الثقافي وكذلك على صعد أخرى، لكن أهتمامنا في هذا المقال المبتسر يرتكز على الجانب الثقافي دون غيره وفي أعتقادنا أيضاً أن هذه الأمور الكثيرة جديرة بأن نتوقف عندها مرة ومرات، ليس على سبيل الفضول أو من أجل الاطلاع العابر على شؤون الحياة الثقافية في بلد مثل العراق، بل لأن ما يحصل الآن في هذا العراق أمر جديد وقادر على أن يقول أشياء كثيرة يدخل بعضها في صلب ما يهمنا من نهوض ثقافي له مؤشراته الخاصة ودلالاته المتشعبة، مع بعض التحفظات النقدية الصادرة من هنا أو هناك.

 

تبدأ الحكاية مع مجئ عهد ثقافي (جديد) يريد لنفسه أن يخوض تجربة أخرى غير تجربة اليد الحديدية أو الصوت الواحد، ويحدث أن ينعكس هذا الأمر على طبيعة الحياة الثقافية تحديداً، ويحدث بالتالي أن يهيمن مناخ من الحرية النسبية وهامش لابأس به من الحركة كان مفقوداً فيما مضى، لكن المسألة ليست هنا إذ تتفتح طاقات إبداعية واسماء ثقافية ونصوص مختلفة كانت غائبة مغيبة وبعضها صامته منزوية أو منفية، ينهض كل من: المسرحيين، السينمائيين، الشعراء، الرسامين، النحاتين، المصورين النقاد والروائيين وكل من يمت بصلة ما إلى الثقافة والأدب والفن في حركة ابداعية لم يسبق لها مثيل ويبدأ العالم باكتشاف العراق، مرة أخرى، الذي عاش أكثر من ثلاثة عقود ونيف تحت ظل حكم مغلق مخيف ونظام تقوم سياسته على الغاء الذاكرة وكل ما له علاقة بالجمال والحياة والإنسانية وهكذا خرجت من بلاد الجدار الحديدي عشرات الصحف والمجلات والكتب والكّتاب ودور النشر حتى بدأت الأخبار تتوالى عن الصحف المختلفة والمجلات والافلام السينمائية والمسرحيات والمعارض الفنية والنشاطات الأدبية المتنوعة والكتب الصادرة هنا وهناك رغم كل هذا الخراب الكبير وبدأ في نفس الوقت المبدعون الحقيقيون يحتلون أماكن الصدارة في مجالات تخصصهم المتنوعة وبدأ العالم أيضاً يحس أن ثمة نتاجات ابداعية قادمة ستخرج إلى النور بين لحظة وأخرى لتجدد حيوية الثقافة العراقية وترفدها بدماء جديدة مخلصة بعد أن ترهلت وتعرضت للتهميش المتعمد بسبب ممارسات ثقافة الصوت الواحد، كما أسلفنا، وبهذا أمسى الواقع الثقافي العراقي الجديد بكل اتجاهاته الفكرية والإبداعية المختلفة جديراً بالتأمل والمتابعة الجادة الفاحصة الرصينة، بغض النظر عن بعض المنغصات أو الممارسات الطارئة لبعض المتثاقفين، كما أن المثقف العراقي المنفي الذي كان يعتمد على الاستذكار والنوستالجيا والحنين في كل ما يكتب عاد من جديد إلى جذوره أو ينابيعه الأولى حيث مصادره المعرفية وتجاربه ومخيلته الخصبة ومكانه ليتفاعل ويتواصل مع من بقيّ محصناً صابراً هناك أمام وسائل الأغراء والتهديد والتنكيل.

 

أن كل صنوف الابداع أذا كانت تختمر وتتراكم في لحظات القمع والقهر والإقصاء فإنها لن تخرج وتفرض حضورها الإبداعي بصورة إعتباطية إلا إذا سبقتها لحظة إنعتاق مكنتها من فرض حضورها المميز والفاعل، فلحظة الانعتاق هذه تطلق العنان لكل الطاقات لاسيما المخبوء منها فقد قدم الكثير من المبدعين، فرادى، نتاجاتهم في اسوأ الظروف الحياتية والمعيشية والسياسية، ومن هنا علينا أن نهتم بإبداع أو بمنجز هؤلاء الافراد بوصفهم المحرك الأساسي للتاريخ وفي هذه النقطة تحديداً نفترق فيها عن المفهوم الماركسي الذي يرى بان التاريخ تصنعه المجتمعات، ولعل أبرز ما يميز الفرد هو ابداعه المتفرد ورؤيته الواضحة لضرورة الثقافة وأهميتها البالغة في بلده العراق بغض النظر عن التوجهات الفكرية المختلفة من فرد لآخر وهذا التميز الابداعي يُعــّد بنظري أمراً في غاية الأهمية خاصة وأنه يصدر عن إبداع خالص الغرض منه تطويرالثقافة أولاً وأخيراً، وهنا في هذا المقال المبتسر لا أهدف إلى أمتداح الثقافة العراقية أو هجاءها بل أدعو إلى فهم هذه الظاهرة الجديدة التي تضيف عمقاً جديداً للمستقبل الذي يجب التركيز عليه والاهتمام به ولكي لا تصبح كلمات مثل الحرية والديمقراطية والعدل والكتابة المتحررة المغايرة جزءاً من مجموعة أوهام وأحلام وتخيّلات وبهذا قد يهرب الكاتب مر أخرى من هذا الواقع العاقر المثقل بالمتاعب.

 

الثقافة العراقية دائماً ما تدعو إلى التحرر والحداثة والانفتاح على العالم وفتح آفاق جديدة، ولذلك يجب أن نترك الواقع الثقافي العراقي يعبر عن نفسه تعبيراً طليقاً حرّاً من خلال المثقف المغاير أو الثقافة النقدية المغايرة، هذا الواقع الدرامي المشحون بالموت والخيبة والأمل، الواقع الذي أصابته الدهشة والانفلاتات والأسئلة التي تستكثر على المثقف تمزيق بكارة الخجل والأمجاد المصطنعة المصنوعة من الوهم والزيف والعقم العقائدي .

 

 

2

 

ليست الذاكرة الثقافية توقفات معادة لتفاصيل قائمة في الزمان وليست تحديداً مُعطى لنمذجة مقدسة ما، إن الذاكرة الثقافية فعل سيروري حضاري متطور في بنيته ومساره أبداً، ومكون من تراكم فكري وترابط جدلي بين المكونات الاجتماعية المكوِّنة لمسار البنية المعرفية الثقافية للمجتمع ذاته، بحيث لا تكون تلك الذاكرة طقساً جامداً معنياً بمواصفات قائمة علي الفعل التقليدي المرتبط بالماضي التاريخي لكتلة أجتماعية ما (شعب أو أمّة) في موضع محدد، بحيث لا تدخل تلك الذاكرة بما يشبه علاقة الماضي والحاضر وحسب بل بملامح تلك الكتلة التي تشكل تأسيساً بنيوياً للذاكرة الثقافية فتبدو مرتبطة بمعنى الزمان الاجتماعي والمعرفي وحتي السياسي، وهذا الأخير تحدده التعبيرات الفكرية ومنظومة العقل الجمعي في تعامله مع أسئلة الماضي التي لا يمكن عزلها، بمفهومها المعرفي، عن منظومة الوعي، من هنا يمكن القول بأن الذاكرة الثقافية بمفهومها التالي نتاج تطور طبيعي مرتبط بوعي الجماعة الذي يفرض نفسه وكأنه عقد ثقافي خالص ومستقل.

 

كيف يمكن لنا أن نفهم تلك العلاقة المتداخلة إذا أردنا عزل الثقافة عن إطارها المعرفي وتجربتها الخاصة أو العامة؟ ألا يعني ذلك، إعادة تفعيل الشك وخلق الاشتباه بالذاكرة الثقافية بمعانيها، القديم والحديث؟ ألا يتطابق ذلك القول بمعناه الأساسي مع الطرح التقليدي السائد؟ إلا إذا كان هناك التباس في معنى الذاكرة المعنية بالثقافة وما اختزنته عبر مسار التأريخ من بُنى معرفية أو دلالات تحدد بصمات تلك الذاكرة بما يميزها في مسألة التكوين وأعني هنا تكوين الأمة بتمثلاتها الرمزية المتعددة والمتعلقة بالقرار الواعي للأفراد حتي وأن تدخل الادراك الجمعي من خلال منظومة الوعي المدرك للعلاقة المتبادلة القائمة بين الخاص والعام من جهة أو بين التجربة الخاصة وانعكاساتها من جهة اخرى.

 

ثمة من يقول: التاريخ شاهد أعمى، لأنه لا يري بعينيه وإنما بعيون الحاضر وطبقاً لهذا التفسير يمكن لنا أن نقول: لا يرانا التاريخ الثقافي/السياسي إلا كما نري أنفسنا وذاكرتنا وتجاربنا ثقافياً أما نظرتنا الثقافية إليه فمسكونة دائماً بما يتعدّاه، كأن هذا الماضي الثقافي (الذاكرة) المنقوش بانجازات ـ تجارب مبدعة لا يفتح ألغازه لقراءة خاصة به إلا إذا كانت، في الوقت عينه، قراءة تتجاوز المألوف والتقليدي والمستهلك نحو معارف الحياة المتنوعة والكامنة تحت كثافة الذاكرة الثقافية الحقيقية والمجردة التي تستدرج المحطات التاريخية العصيبة أو اللحظات الحرجة إلى مسار جديد وفي هذا المسار الذي يبدو عودة إلى الزمان من زمان آخر أو تغييراً معرفياً في مجري قراءتنا للأحداث السابقة/ اللاحقة التي تشكل الأهداف الإنسانية العامة منها والخاصة بصورة واعية تماماً.

 

ليست الذاكرة الثقافية العراقية إلا لحظة هي الدافع إلى البحث عن تؤام تتقاسم معه ألغاز الماضي مع اسقاطات الحاضر وتنخرط إلى جانبه مغامرات المستقبل التي تبدو، في بعض الأحيان، باسمة مشرقة ومقبلة على الحياة تعبّ منها بغير حساب، وما يهمّني في هذه النقطة بالذات هو الإشارة إلى ما يمكن اعتباره مشتركات ثقافية عدة يجدر بكل المعنيين بالثقافة العراقية، حصراً، مراجعتها أو الاهتمام بها والتدقيق بجدواها.

 

ليس من شك بأن الذاكرة الثقافية العراقية بالمعني المعرفي للكلمة التي تتجلي دورياً في العملية الابداعية، لأمة ما، تفرز ظواهر الركود الثقافي وتراجع المنجز الإبداعي خلال فترات غير محددة تحمل معها الكثير من التفاصيل المتعلقة بكل الفنون الأدبية، لكن بالرغم من كل ذلك يبقي السؤال الجوهري مطروحاً: هل أن الذاكرة الثقافية هي حقاً مجرد مراجعة عابرة لا تمس أسس الثقافة الأصيلة بحيث تكون هذه الأخيرة قادرة على البقاء؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تقتضي العودة إلى مفهوم الثقافة وتجلياتها خلال القرن المنصرم وآفاقها المقبلة أو الرؤية النقدية المتجددة للمثقف المتحرر، لكي لا تتزايد حدة التناقض بين التملك الثقافي من جهة وانتقال هذا التملك إلى المستقبل من جهة ثانية بفعل الممارسات المختلة أو الذرائع الفجة التي تريد أن تعود بنا إلى ذلك الزمان، زمان التحكم بكل شيء ثقافي فمسألة المراجعة الحقيقية للذاكرة الثقافية المتمثلة بالفعل الثقافي الأصيل والمبدع والمغاير تهمنا جميعاً، ولعل بعض الجهود الفردية تمضي بهذه البداية إلى الموضع الذي تستحقه الحياة الثقافية في عالمنا العراقي المترامي الأطراف.

 

 

إقرأ أيضا