كان الغرب يشكو من تسلط الكنيسة على الحياة العامة ووقوفها عقبة أمام التطور وها نحن في الشرق نلاحظ ميلاً معكوساً يتجلى في أن السياسي هو الذي يحشر الدين في دنس المصالح لتقديس النوايا التي تتعارض مع حقيقة النص الأصلي، وها أنا أتساءل في كل مرة أرى فيها خطيباً طائفياً أو كاتباً عقائدياً: لماذا يضحي هذا الخطيب بماهية الخطاب؟
من هنا يمضي المخاطب إلى فضاءات بعيدة تتجاوز موضوع المعرفة لما هو أبعد من ذلك، إضافة إلى إن الخطيب يحاول دائماً تجيير خطاباته لصالح أيديولوجيات تستعير مصادر التغيير وبواعثها من نتف الخطابات العبثية المتناثرة التي يمارسها الآخر بنفس اللغة الهذيانية التلقينية الممجوجة بحيث تبدو متطابقة في استخداماتها الكامنة لاشكالها المتكررة، إن القول بأن العقائدي أو الطائفي كان يمتلك خطاباً سياسياً أو ثقافياً ومعرفياً واضحاً يخدم المستقبل هو قول ينطوي على أكذوبة كبيرة، ذاك لأن الخطاب الحقيقي المجرد يظل غائباً بصورة انطباعية عن ذهنية الخطيب أو لغة الخطاب، لكنه يبقى شاهدا فقط على نمو الظاهرة العقائدية الطائفية التي فرضت هذه العلاقات المتشابكة بمنتهى القسر، إذ لا يمكن أن يكون هناك خطاب معرفي حقيقي من دون تحرر عقائدي طائفي حقيقي، فمن غير المستحيل أن يكون الخطاب مجرداً والشواهد على الممارسات العقائدية والطائفية، اللغوية والثقافية عديدة بدءاً من التسميات وانتهاءً بالنفس السردي المتشكل في مضمون الحوارات الدائرة الآن، فالمشهد الثقافي أو السياسي خطير إذ بدأ يتحرك سريعاً وينتقل من اللغة إلى فعلها ومابين كل فعل وفعل دماء جديدة مهدورة تسوغ الثغرات والهفوات التي يرتكبها البعض لتفتح الطريق معبداً لمن أراد الوصول إلى هذه النتيجة الكارثية، فعناوين الدم وشكل الموت والغرائز والكراهية في الخطابات السائدة بمثابة بيان صريح من أجل إراقة المزيد من الدماء البرئية كما أن عبثية اللغة العقائدية الطائفية مرشحة لمزيد من التصعيد أو التوتر الذي تريد منه بعض الأطراف تمرير أجندتها التي باتت معروفة للجميع.
إن الاسلوب الذي يسلكه خطباء العقائد/ الطوائف يسلكه أغلب الساسة على مر التاريخ، فاتباع العقائد الدينية لا يختلفون عن نظرائهم بإلغائهم كل مايمت بصلة لكلمة الحوار أو الاختلاف، وهم بهذا يحملون مشعلاً يضيء دروب الطغاة الجدد لتحديد مسار المستقبل الحامل للصراعات المناقبية، وقد أشار لذلك مرة الدكتور علي الوردي بالقول إن “الطغاة ليسوا أفراداً فحسب، بل هم ظواهر اخلاقية، سياسية، ثقافية واجتماعية على مر العصور”، وانطلاقاً من ذلك سنعود، قسراً، للتخلي ثانية عن المستقبل ونتركه مطلقاً طليقاً ليكون في حوزة العقائديين/ الطائفيين الجدد، وكما ان التخلي عن المستقبل عبر هذه النماذج المتلاحقة سوف يهيّئ الأذهان للمفهوم الديكتاتوري الحديث وقد هيّأها من قبل لمفهوم النخبة الجديدة القديمة.
في هذا العراق (الجديد) الكل يمارس الصيغة الجبرية ليدعم بها حزبه، مؤسسته (الثقافية) وسلطانه وإسباغ الشرعية على أساليبه الاستبدادية مستندين إلى الشريعة أي إلى قضاء الله وقدره، في حين ان غالبية الناس يعيشون في دوامة الموت والفقر والخوف، ولو حاول أي فرد ما من إبداء أي رأي مخالف أو ملاحظة نقدية أو اعتراض ترى معظم هذه الاحزاب تجيب عن هكذا ممارسات بقداسة نصها وعليه تقيم الفتاوى وتغلق الصحف وتصادر حرية الكلمة والتعبير، والحقيقة أن الكلام عن تقديس النص الأصلي من جانب هذه الاحزاب أو المؤسسات ليس سوى تدنيس للنص المعرفي من خلال تسييسه كما انها لا تريد فيما تقوله وتمارسه تقديس النص حقاً، بل تريد تقديس نصها هي مستخدمة في ذلك لعبة لغوية أو مناورة لفظية تنطلي على الجهلة وخلاصة هذه اللعبة/ المناورة هو الانتقال من النصوص الاصلية المتمثلة بالكتب السماوية والانتقال إلى النصوص الثانوية المتمثلة بالاجتهادات والتأويلات التي وضعها أشخاص نصّبوا انفسهم (فقهاء)، وبهذا يسيطرون على العقول الساذجة التي تتأثر بسرعة بموضوعتي التفسير والتأويل ولتمارس باسم هذه القداسة المزعومة ما مارسته الحكومات المتعاقبة في حق العراقيين على امتداد عقود طويلة من قمع وترهيب وتنكيل وتجويع، هذا هو التمويه بمعناه السياسي والديني والثقافي حين نتحدث عن قداسة النص وعلينا أن ندعو إلى تشكيل جبهة ثقافة معرفية تنويرية مستقلة لمواجهة التجهيل المتعمد التي تقوم به القوى السياسية الدينية العقائدية المتطرفة بفروعها كافة وعلى اختلاف إيديولوجياتها من أجل تعميق الوعي المعرفي الحقيقي وانتشاله من شكليات الطقوس والارتقاء به إلى مستوى حقول المعرفة الخالصة وبهذا نستطيع أن نضع فاصلة أو مسافة ما بين الفقيه الحقيقي الذي يتعامل مع النص الأصلي بمعرفة وعلمية وقادة الأحزاب العقائدية أو تلك التي ترفع شعارات علمانية أو ليبرالية مبطنة، بحيث يغدو موضوع الاجتهاد في الحياة والدين والفكر كما في غيرهما من الفنون أو العلوم الإنسانية مسألة إبداعية جمالية مشرعة على المستقبل.