الرفسنجانية عقلانية ثورية، والعقلانية الثورية من اصعب انواع العقلانيات وأعسرها تسويقاً، في الحزب والدولة، لانها تسبح ضد تيار المرحلة، وتمارس الاقناع بنظريات مستقبلية لا يريد الثوار الشباب تصديقها بسهولة.
ولولا ظروف الحرب، والحصار، وسياسة الاحتواء الامريكية لإيران، لتحولت هذه الدولة الى (صين المسلمين) منذ زمن ابعد.
وفي الحقيقة انني لا اجد تجربة أقارب من خلالها ايران اقرب من التجربة الصينية، وهي تجربة عقيدة سياسية وأيديولوجيا حزبية محاصرة في ظل نظام عالمي لا يريد لها البقاء.
الاتفاق الذي ابرمه ظريف وكيري، هو في الحقيقة اتفاق بين الرفسنجانية الايرانية، ومبدأ جورج بوش الاول الذي تبنى الاحتواء المزدوج.
وهذا الاتفاق يشبه ستراتيجية الامين العام للحزب الشيوعي الصيني (جيانغ زمين) والتي نفذها الرئيس جنتاو وكانت تعتمد على تسجل النقاط الخارجية من خلال التنمية الداخلية مع تجنب الصدام مع النافر الدولي من ايديلوجيا وعصامية الدولة.
لكن لا (زمين) ولا (جينتاو) هم اصحاب الفضل الاول، بل القضية كانت تعود الى ايام “المجتهد ” الماركسي ماوتسي تونغ، والصفقة التاريخية التي عقدها مع الرئيس الامريكي ريتشارد نيكسون حول التخلي عن تصدير الثورة والأممية البلورتارية.
اما تصدير الثورة الذي صورته الدعاية وكانه خطيئة سياسية إيرانية، فقد كان بالحقيقة انسجام جميع الثورات مع نفسها، لان ما بعد الثورة هو تصدير الثورة والتبشير بها خارج الحدود وهو ما فعلته الثورة الفرنسية، والثورة الروسية، وجميع الثورات في العالم.
لكن دولاً منها ايران طورت التبشير والتصدير، الى تصدير ناعم وهو بالأساس مصمم لانظمة الحكم الاسلامية ما قبل صعود العدالة في تركيا، والربيع العربي في الشرق الأوسط وشمال افريقيا، والذي أوقف هذا التصدير ليس الدعاية او الاحتواء المزدوج، بل أوقفته العقلانية الرفسنجانية على صعيد نموذج (ادمان الثورة) الذي سقطت فيه كوبا و كوريا الشمالية، كما أوقفه عامل خارجي اخر هو (الطائفية الاسلامية) التي قادت المنطقة الى الدخول في حرب سنية شيعية باردة بعد سقوط نظام صدام في العراق عام ٢٠٠٣.
لو لم تكن ايران شيعية، لحدث الربيع العربي عام ١٩٧٩، لان حرق (بوعزيري) لنفسه في شوارع تونس لم يكن اهم من نزول الامام الخميني من طائرته عائداً من منفاه. كما ان الكاثوليكية في وسط اوربا، كانت ترفض بخفاء حضاري عميق، تطور التجربة الماركسية الذي تحول الى حزب ايديلوجي دكتاتوري في روسيا الارثذوكسية.
قبل أسبوعين، وفي مكالمة تلفونية لذيذة مع الداعية المؤسس (أحد مؤسسي حزب الدعوة) السيد طالب الرفاعي، تحدثت معه عن الشيوعية، وكان قد تسأل عنها: لم فشلت في اوربا ونجحت في الصين؟ وكان الجواب متشعبا، لكن بعضه كان يؤشر على حقيقة تلك الصفقة بين ماو تسي تونغ و نيكسون.
صعوبة الرفسنجانية تكمن في عدة عقد مهمة منها: صعوبة التكيف بين حتميات الدولة، وفرضيات العقيدة الثورية، فيتعرض الثوري العقلاني الى النقد المزدوج من خارج التجربة، ومن داخلها، وعلى سبيل المثال مات الماركسي العراقي الماوي هادي العلوي وهو ناقم على جيانغ زمين، كما سيموت الكثير من قادة الحرس الثوري او متشددي نظام ولاية الفقيه وهم ناقمون على رفسنجاني رحمه الله.
لا تشذ الرفسنجانية على قاعدة الحاجة الى العدو المحفز، وهي قاعدة تحتاج اليها الدولة الثورية، والدولة المستقرة معاً، وهي بالمناسبة ليس من ابداعات النازية كما توهم البعض، ولا من ابداعات صموئيل هنتغتون في صراع الحضارات ايضاً، بل هي بالأساس للفيلسوف الصيني (مينكيوس) وتقضي بأن أي دولة ليس لها عدو أو خطر خارجي، محكوم عليها بالمطلق بالاندثار.
لذلك ترى الانقسام الإرادي الذكي مثلاً، من خلال التاكيد على الخطر الامريكي من قبل مؤسسات الولي الفقيه والمرجعية والحرس الثوري، والتعامل مع هذا الخطر من قبل مؤسسة الرئاسة ووزارة الخارجية. وهذه السياسات الصينية الايرانية هي نتاج طبيعي لعدة عوامل تاريخية وسايكلوجية جمعية، تتمتع بها الدول العريقة، التي تريد الاحتفاظ بعقائدها السياسية المحاصرة، والعلاقات الدولية الناجحة في آن معاً.
ان دولا عريقة ومغرورة حضارياً، مثل ايران والصين وروسيا واليابان، لا يسعها التسليم المطلق لروح النظام العالمي القائم على عقيدة نهاية التاريخ عند الرأسمالية الليبرالية بقيادة الغرب (الأوربي الامريكي) حتى لو اضطرت للتعايش معه والتفاعل الاقتصادي والسياسي البعيد المدى.
من يلاحظ كيف طورت ايران زراعة القمح والرز والسكر، او الصناعات الاستهلاكية اليومية او المتوسطة، وكيف اهتمت بالبحث العلمي وتطوير السلاح والمؤسسة العسكرية، يدرك انها دولة تتوقع الحرب والحصار في كل يوم، وتعمل لتجنب الحرب والحصار كل يوم. وايران بالتالي من صنف الدول والشعوب التي لا تجد ذاتها الا في ذاتها.
والإسلاميون العراقيون الشيعة متأثرون الى حد ما، ببعض ستراتيجية الثورة الايرانية، فحين يجلسون الى قائد الثورة الخامنئي، او الراحل محمد حسين فضل الله، او امين عام حزب الله السيد حسن نصر الله، يسمعون كلاماً مكررا حول هذا الانقسام الإرادي الذكي، وعن عالم الجعل والمجعول، وما يناسب المرجع، وما يناسب السياسي، من القول والموقف. هنا يمدحونا البعض كعراقيين، مدحاً لا نستحقه، حول التوازن في العلاقة بين ايران وامريكا، الذي هو في الحقيقة هو تفاهم، بين الإيرانيين والامريكيين، اكبر من قدرات العراقيين المحدودة.
لكن يبقى السؤال الاخير حول من يلتحق بمن؟ ومن سيضع من في الثلاجة؟ العقيدة السياسية للدولة والحزب؟ ام العقلانية الواعية للسياسية؟ فالأول يقودنا لعودة صراع الايديولوجيات والحرب الباردة، والثاني سيجعل من التكتيكي ستراتيجيا! ومن المؤقت دائما!؟
أم انه كان دائماً فعلاً؟