السعوديون ما بين الطائفية المقنعة والتعاطف الزائف

في أعقاب الهجمات القاتلة التي استهدفت الأقليات الشيعية في القرى السعودية، الدالوة والقديح والعنود التي…

في أعقاب الهجمات القاتلة التي استهدفت الأقليات الشيعية في القرى السعودية، الدالوة والقديح والعنود التي أودَت بحياة 35 شخصاً بالإضافة إلى أكثر من 100 جريح حسب مصادر قريب من الهجوم.، الأن, هو واضدح لسعوديين كثيرين أن الطائفية الدينية هي أثبتت الطائفية الدينية أنها تشكل خطراً كبيراً على المجتمع السعودي.

 

ولا يخفى على أحد أن هناك عوامل كثيرة ساهمتْ في هذا العنف الطائفي في المملكة العربية السعودية. ومع ذلك، كان واحداً من أهم الإسهامات هو الفِكر الأحادي والمواقف الإقصائية التي استوعبها الكثير من السعوديين من بيئتهم تجاه أولئك اعتمدها الكثير من السعوديين تجاه أولئك الذين ينحرفون بعيداً عن المنظومة الفكرية السائدة. وقد نَبَعَ هذا الموقف الغادر من البيئة التعليمية في السعودية وتسرَّب إلى المحيط الاجتماعي وشق طريقه إلى عقول الأفراد وأثّر على تعاملاتهم مع الآخرين.

 

وقد تشبّعتْ حالياً الأجيال الشابة من عقلية التفرد هذه، ولكن الأجيال السابقة مارست التعدد الثقافي واستفادت من التنوع الفكري. على سبيل المثال، كان أهل السنة من “المدينة المنورة” يتخالطون بأهلها من الشيعة، الذين كان يعملون في مزارع النخيل في المدينة. واليوم، فإن معظم شيعة “المدينة المنورة” ما زالوا يحملون اسم العائلة “النخلي”، المشتق من الكلمة العربية “نخيل”. وعلى الرغم من أن الزواج بين السنة والشيعة لم يكن مطروحاً وأن نظام التمايز الطبقي بقي على ما هو عليه، إلا أن المجتمعات تعايشت بسلام. وخلال هذه الفترة، لم يتم إقصاء شيعة “المدينة المنورة” ولا التضييق عليهم اجتماعياً.

 

ومع ذلك، أصبح إقصاء الشيعة والتضييق عليهم شائعاً في العقود القليلة الماضية. وتقتصر أماكن سكن العوائل الشيعية على حي مدينة العوالي الشيعية حصراً تقريباً في “المدينة المنورة”. وعلاوة على ذلك، أصبح الاختلاف العِقدي والثقافي وَصْمة، مما يشكل تحولاً كبيراً عن الماضي، حيث كانت كانت التعددية مُكوّناً أساسياً ورصيداً كبيراً للثقافة في المنطقة الحجازية.

 

فشل العديد من السعوديين العاديين في إدراك الكيفية التي حفزت بها هذه التعددية المتداعية الهجمات الطائفية الأخيرة ضد الشيعة وتآكلت الوحدة الوطنية. فالجميع تقريباً في المملكة العربية السعودية أدان أحدث الجرائم التي ارتكبت في المنطقة الشرقية وتآكلت الوحدة الوطنية. وقد أعرب غالبية الناس عن تعاطفهم مع الضحايا وعوائلهم، وتداولوا صورهم على مواقع التواصل الاجتماعي. وطالَب العديد من الكتّاب والباحثين بِسنّ قوانين لتجريم الطائفية. ويبدو أن الجميع قد أدرك الخطر الذي تشكله الطائفية وتداعياتها المحتملة.

 

ولكن هذا الاتجاه الواضح من التعاطف ينهار عند البحث عن كثب ويكشف الإفتراء في هذه الأحاديث الوجدانية ظاهرياعن التعاطف. ولا يزال معظم السعوديين غير مستعدين إلى اعتبار أسر الضحايا كأخوة وشركاء في الوطن بسبب الخلافات الفكرية والعقائدية، في حين يشجبون العنف المرتكب على أساس الأيديولوجية نفسها! وعندما يشعر بعض المواطنين أنهمه/أنها أفضل من غيرهmم/غيرهام من المواطنين بسبب اعتقاداتهم/اعتقاداتها الدينية، فهو/هقهمي يعتبرون أنفسهم على نحو غافل وكلاء لله على الأرض، وبالتالي مؤهلين للحكم على المعتقدات الأخرى. إن هذا الاستعلاء الذي لا مبرر له ليس مرض ديني غير قابل للشفاء، ولكنه علامة على تضخّم الأنا. ومع ذلك فهو يوفر أسس المنهج التكفيري، الذي يتغذى على شعور بامتلاك الحق المطلق على المجتمعات الأخرى. ويوفر هذا الموقف أيضاً اعتراف ضمني بعدم استحقاق “الآخر” – بشكل عام من طائفة الأقلية – لنفس حقوق المواطنة كما لطائفة الأغلبية.

 

ويعرض هذا المثال أكبر قدر من التحدّي بالنسبة لماهيّة وحقيقة مفهوم التعاطف. هل يمكن بصراحة اعتبار الشخص متعاطفاً إذا كان تعاطفه لا يعدو كونه استجابة انعكاسية التحفيز استجابة انفعالية لوفاة شخص بريء؟ إن هذا الشخص المتعاطف زوراً قد يقر ويحترم حزن أب الشهيد وحرقة الأم الثكلى. وحتى قد يكون/تكون كريماً/كريمة بما يكفي لتنهمر دموعه/دموعها حزناً وتأثراً.

 

بيد، إن هذه المشاعر لا تعني اعتراف ذلك الشخص بحق الشيعة في الحصول على حقوقهم الكاملة كمواطنين. وقد لا يكون له/لها مصلحة في التأكيد على حقوق الشيعة في الحماية القانونية، أو في اختلاف وجهات النظر وممارسة الشعائر الدينية.

 

وللأسف، يشجع المجتمع السعودي هذا الموقف. فوفقاً للمناهج الدراسية السعودية، فإن الشيعة هم “رافضة” وجماعات ملحدة لن تحظى بالنجاة يوم القيامة. ومن الناحية السياسية، يصنف الشيعة سياسياً بـ “الصفويين” الذين يخدمون أجندات إيران في المنطقة. وبالنسبة للكثير من السعوديين الذين استجابوا للهجمات الأخيرة بتعاطف، فإن ذلك قد غسل أيديهم فقط من المسؤولية دون أن يغيّر أي شيء على الإطلاق في الواقع السعودي المتمثل بالتوترات الطائفية. وتخلق هذه التسميات شعوراً بعدم الثقة وانعدام الأمان بين المواطنين، حيث يشعر الشيعة أنهم مستهدفون من قبل الجماعات الإرهابية بسبب انتمائهم الطائفي. وهذا بدوره قد يتطور إلى شعور عام بالظلم، وخاصة إذا تسببت محنتهم تعاطف زائف فقط من قبل جيرانهم السنة. وهذا السيناريو هو الذي يُراهن عليه تنظيم “الدولة الإسلامية”. ومن خلال تشجيع الطائفية وتمزيق النسيج الاجتماعي والتلاحم الوطني في المملكة العربية السعودية ، ربما قد يحقق “داعش” هدفه المتمثل في زعزعة استقرار منطقة عربية أخرى.

 

إذن لابد أن يكون التعاطف الذي نسعى إليه، نحن كمجتمع أن يدرك أهمية احتواء جميع أطيافه. يومياً وكذلك في وقت الحاجة. وهذا التعاطف الحقيقي سيضمن التناغم الاجتماعي بين الجماعات الدينية والتضامن الوطني الشامل. وينبع مثل هذا التعاطف من الشعور بالمساواة، بين جميع المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم الطائفية أو معتقداتهم الدينية أو خلفايتهم الإيديولوجية. فالإيمان بحرية ممارسة الشعائر الدينية الخاصة بكل طائفة وكفالة هذا الحق لجميع الطوائف في جميع أنحاء المملكة، من الواضح أنه لا يكفي للحدّ من خطر الطائفية. فالهجمات الإرهابية الأخيرة التي حدثتْ في المنطقة الشرقية استهدفت مساجد خاصة بالشيعة، الأمر الذي يثير السؤال التالي: ماذا لو كان المواطن السعودي الشيعي محمياً بالقانون وقادراً على ممارسة شعائره دون مضايقات على الملأ وليس بمعزل عن بقية أفراد المجتمع من دون طائفته، هل كان سيضطر إلى اتخاذ مساجد خاصة ليمارس شعائره؟ ولو كان السعودي الشيعي يشعر بالاحتواء والتقبّل الاجتماعي، هل كان سيحتاج أن يمارس شعائره داخل جدران مسجد كل روّاده من نفس طائفته لكي يشعر بالأمان؟ ماذا لو كانت المناهج في المدارس السعودية قد صوّرت التنوع باعتباره سُنة كونية تنعكس على جميع جوانب الحياة بما فيها الممارسات الدينية – وهي استراتيجية تم تنفيذها بنجاح من قبل سلطنة عُمان من أجل تحقيق الوئام بين جميع مذاهبها وطوائفها المختلفة – هل كان أي سعودي شيعي سيضطر إلى إخفاء انتمائه خوفاً من النبذ الاجتماعي؟

 

يجب أن يتم كشف الطائفية المقنّعة، لأنها أكثر خطراً من الطائفية الصريحة. ولا يمكن للمرء إلا أن يأمل بأنه لم يفت الأوان بعد للقيام بذلك بعد أن أنتج كل من الفِكر الإقصائي والمنهج التكفيري أجيالاً جديدة ترى الاختلاف أمراً غريباً ومُستهجَناً .

 

ومع ذلك، هناك أمل في أن جهداً واحداً على وجه الخصوص قد حاول إحداث تغيير يكفل استدامته بعض الردود للهجوم الأخيرة التي تستذنب الطائفية. فقد قام فريق من مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني في إنتاج فيديو بعنوان ‘القاتل الخفي’ بعد أحداث الشرقية الدامية. و يُسلّط الفيديو الضوء على خطر الطائفيّة بشكل عام ويُشير ضمنياً إلى الطائفية المقنّعة. ويركز الفيديو أيضاً على أهمية التعايش كقيمة أساسية للمجتمع السعودي.. ومع ذلك، من المؤسف أن مثل هذا الفيلم قد ظهر فقط بعد أن أزهق العنف الطائفي العديد من الأرواح، مما يثير أسئلة أوسع وأعمق حول جانب من جوانب العقلية العربية التي لا تأخذ الأمور على محمل الجد إلا بعد مواجهتها لكارثة.

 

في مجتمع مُلغَّم بالطائفية المقنَّعة والصريحة على السواء من جهة، ومُحَاصَر بالتعاطف الزائف من جهة أخرى، فإن الفرصة الوحيدة للنجاة من مخاطر التوتر الطائفي تكمن في التحدي للتعاطف الكاذب من أجل الاعتراف بالتحيّز المقنَّع ومواجهته كمجتمع. ويتطلب ذلك توحيد المجتمع من خلال معالجة “الآخر” كأخ، والاعتراف بأن الوفاق لا يُحدد بالتطابق في الفكر أو المبادرة أو الدين. ومن أجل الوقوف في وجه ريح الطائفية لابدّ من تضافر جهود الأكاديميين والباحثين والمثقفين لتأسيس خطاب ثقافي قائم على التعدد والتنوَع الفكري ينعكس في المناهج التعليمية والخطاب الإعلامي، بالإضافة إلى تعزيز ثقافة المجتمع المَدَني والبدء بتفعيّل دور مؤسساته في المجتمع. فلا حلّ إلا بترسيخ فكر مُنفتِح على التعّدد ومُتسامِح مع الاختلاف كبديل للفكر الإقصائي، وتدشين منهج نقدي موضوعي مُقَابِل المنهج التكفيري.

 

 

هبة البيتي: صحافية ومترجمة ومدونة سعودية

 

إقرأ أيضا