عندما يكون الشعرُ شديدَ الارتباط بالمسرح، فإنه يتطلّعُ إلى أنْ يكون شديدَ الارتباط بحقائق الواقع. وليس المقصود بالمسرح، هو ذلك الجنس الأدبيّ المنضبط بقواعد فنية صارمة، وإنما فعلُ المسرح وروحُه الشغوفُ بالكشف عن الفوضى الـمُقنَّعة بأقنعة النظام، وبالكشف عن اللامعقول المتخفّي بجلباب المعقول. فأسلوبُ المسرح يصفُ الأفعالَ كما تَـحْدُثُ في الحياة، ويصوّرُ الصراعاتِ التي تُـحْدِثُها هذه الأفعالُ. ويَدْمُجُ الفعلَ بالزمان والمكان على نحوٍ يَـحْضُرُ فيه الكائنُ في قلب الحدث في لحظةِ نزاعٍ أنطولوجيةٍ. واللحظةُ المسرحيةُ في الشعر قد تتبدّى في لفظةٍ أو تعبيرٍ أو صورةٍ وقد تتبدّى في فعلٍ عابرٍ وبسيطٍ لا يَسْتَغْرِقُ وقتاً طويلاً في معايير المسرح لكنّه فعلٌ تتمركزُ حوله صراعاتٌ تتسعُ زماناً ومكاناً:
1- باسْمِ اللهِ
باسْمِ الرَّصاصِ
باسْمِ الـمَ…الرَّشيدةِ
باسْمِ الجماعةِ باسْمِ المليشياتِ
باسْمِ الكاتمِ
افتتاحُ مصنعِ العُبُوّاتِ الناسفةِ واللاصقةِ
في بلدٍ أصبحَ بحجمِ المرحاضِ بعدَ تقسيمِهِ. [أحمد جبور]
2- من بطونِ التراويحِ الممزوجةِ بزناجيلَ تَزْعُمُ أنها خليفةُ اللهِ الباقي في أرضٍ تَرْضَعُ نفطَها وتَسْكرُ على صوتِ الأراملِ الناقصةِ. [ علي تاج الدين]
3- أسيلُ كجرّةِ ماءٍ حينما تَصْعَقُ أذني أصواتُ الإسعافِ. [أحمد ضياء]
4- في العيدِ أسألُهُ: يا ربّ جرّبْ، ولو مرّةً، أنْ يكونَ لك أبٌ وأمٌّ ويأتي شخصٌ ما يخطفُهما من بين ناظريكَ. [ أحمد ضياء]
وقد عانقتِ القصائدُ، التي كتبَها مجموعةٌ من الشعراء العراقيين أطلقوا على أنفسهم تسميةَ: ميليشيا الثقافة، المسرحَ عندما نقلتْ شعريةَ القصيدة من لحظة الامتثال الصارم لسلطة المخيلة وبلاغة الخيال، إلى لحظةٍ يتكشفُ فيها الخيالُ الأسودُ في الواقع الحقيقيّ، أو إلى اللحظة التي يشعرُ فيها الشاعرُ أنه ليس لديه ما يخسرُهُ سوى أنْ يحرّرَ نفسَهُ من سجن الامتثال لمنطق التعبير النمطيّ عن الواقع. فهذه القصائدُ لن تبدو للقراءة، التي تأخذُ بنظر الاعتبار السياقَ التاريخيَّ الذي أُنْتِجَتْ فيه، بلا معنى إذا ما قرأناها من زاويةٍ معينةٍ. فالواقعُ العبثيُّ، يُنتجُ أدباً عبثياً. وعندما تكون حركةُ الموت حركةً عبثيةً، فإنّ مواجهتَه تَتمُّ بأساليبَ عبثيةٍ، منها قراءةُ الشعر أمام أنياب الموت التي مازالت حيةً وناشبةً في أجساد ضحاياها في سيارات نقل الموتى (الإسعاف) أو السيارات التي فُخِّخَتْ لتحصدَ أرواحَ الأبرياء. والعبثُ واحدٌ من أمضى وسائلِ نقدِ الواقعِ ومواجهته. فالافتراضُ بأنّ اللغةَ العبثيةَ يمكنُ تأويلُها هو في حدّ ذاته اعترافٌ بإمكانيةِ تأويلِ الواقعِ استناداً إلى الكلمات والصور التي صُنِعَ منها. وينقلبُ التأويلُ، هنا، إلى فعلِ تحريضٍ قويّ ضدّ كلّ أشكال الإيديولوجيا المخدِّرة لجموع الناس، وفي مقدمتها الإيديولوجيا الدينية كما هو حاصلٌ في العراق الآن.
إنّ هذا النوعَ من الشعر، الذي يكتبُهُ هؤلاء الشعراءُ يحرّكُ في الذهن صوراً لا حصرَ لها من الأفكار حول ماهية الشعر ووظيفته في عالَـم الإنسان المتغيّر والمضطرب في آنٍ. فهذا الشعرُ يَطرحُ، في الحقيقة، إشكالياتٍ جديدةً تتعلقُ بالواقع العراقيّ في محنة الحرب والإرهاب والصراع الطائفيّ وما رافقَهُ من قتلٍ وتهجير ومآسٍ تفوقُ الخيالَ والتصورَ البشريّ. فهذا الصنفُ من الشعر الذي حملَهُ عددٌ من الشعراء وذهبوا بقصائدهم إلى السيارات التي فُخِّخَتْ وأُهْمِلَت الآن في مكانٍ مهجورٍ حتى تآكلَها الصدأُ، فأصبحتْ تَـحملُ في أحشائها الموتَ والولادةَ معاً: نهاية حياةٍ حافلةٍ لأناسٍ رحلوا رغماً عنهم بالعنف، وبداية ولادةِ أملٍ جديدٍ لخطابٍ يواجهُ الإرهابَ بالرَّفْضِ والسخريةِ القاسيةِ. فالقصائدُ التي أُلْقِيَتْ على مسامع السيارات المحترقة، من قبل شعراء تلطَّخوا بالطين والأحزان والرفض في لحظةٍ يتوهجُ فيها الإحساسُ الأنطولوجيّ، إنما هي قصائدُ تخاطبُ بقايا الأرواح التي عَلِقَتْ آخرُ صرخاتـِها قبْلَ أنْ تلفظَ أنفاسَها الأخيرةَ. فهي مراثٍ جمعيةٌ توجّهُ توبيخاً لاذعاً للموت، وتوبيخاً لاذعاً للحياة في شكلها المنبوذ الذي فرضَ نفسَهُ على الحياة، وتوبيخاً للشعر الذي فقد فعاليتَهُ في الحياة العدمية التي فرضتْ نفسَها على المجتمع العراقيّ. وقد وصفَ أحدُ شعراء هذه الجماعة (علي ذرب) تجاربَ هذه القصائد بأنها: “تجاربُ أدنى ما يُقالُ عنها إنها احتوتْ عنصرَ المجابهة المغيَّب في المشهد الشعريّ”. وهي تجاربُ تصوّرُ المقابرَ والمفخخاتِ وحقولَ الألغام وسيارات الإسعاف، باعتبارها كما يقولُ علي ذرب أيضاً: “ركائزَ واضحةً لغيابٍ سأقعُ فيه بأيّ لحظة غيابٍ عبرَني أكثرَ من مرةٍ، غيابٍ يُـحَدّقُ من خلال عدسة الدم. أماكنُ تشتركُ بأوقاتٍ لازالتْ ساخنةً في كلٍّ منها كنتُ”.
إنّ هذه القصائدَ تُدشِّنُ مرحلةً من الرفض للواقع السياسيّ وتعبّرُ بجرأةٍ عن الصوت المهمَّش في الواقع السياسيّ المفروض، وهي تمارسُ النقدَ عن طريق التهكّم الأسود وعَرْض الصور السوداء الصادمة بكلّ صدقها وحقيقتها البشعة والقبيحة من خلال استحضار رائحة الجثث عبْرَ اللغة:
1- منذ 2 قوطية ويسكي وأنا أحاولُ الكتابةَ عن:
أمٍّ تحاولُ أنْ تُطفئَ ابنَها المحروقَ بذراعيها المقصوصتين. أبٍ يحاولُ إعادةَ رأسِ ابنِهِ المقطوعِ إلى عنقِهِ النازفِ. [كاظم خنجر]
2- نقاربُ بين الرأسِ وجثتِهِ، وندركُ في أعماقِنا أننا نمنحُ الرؤوسَ لجثثٍ لا نعرفُها. [كاظم خنجر]
فاللغةُ في هذه القصائد لا تنتمي إلى عالَـم الخيال والألعاب الذهنية الفارغة وإنما هي منتزعةٌ من القاموس الأسود للواقع العراقيّ. وبذلك، تتحرّرُ هذه القصائدُ من قوة هيمنة الذاتية في الخطاب الشعريّ، محاولةً أنْ تجعلَ الممارسةَ التجريبيةَ في الكتابة والإنشاد طريقةً في الاقتراب من الواقع الموضوعيّ، وطريقةً لمسرحة الواقع العدميّ. فهذا الضربُ من الشعر، يحاولُ أنْ يقبضَ على الأنساق الفوضوية الكلية المتحكمة بالواقع، وأنْ يُقدّمَ نفسَه باعتباره المرآةَ العاكسةَ لتلك الأنساق. لكنّ ذلك الإنعكاسَ لم يكن مجرد انعكاسٍ وإنما هو نهاياتٌ حادّةٌ لشظايا المرآة وقد عادتْ سلاحاً بوجه الصورة التي ركّبَها الأشرارُ.
إنّ هذا النمطَ من القصائد، ينتمي فنياً إلى مابعد الحداثة، فهي قصائدُ ضدّ العقل في تجلياته لدى عقلاء الحروب والمآسي، وقصائدُ متآخيةٌ مع الجنون في تجلياته لدى العقلاء المهمَّشين والرافضين للواقع الذي يتحكّمُ به عقلاءُ المآسي والشرور. لقد تغيرت المفاهيمُ تغيّراً هائلاً في زمن مابعد الحداثة، إذ تغيّرَ مفهومُ القارئ المثاليّ، الذي كان يحتكرُ وحدَهُ طرائقَ تفكيك سُنن النصوص وفكّ شيفراتها، إلى القارئ الفضائيّ وهو قارئ له تجربةٌ في عملية القراءة الحية The live reading القائمة على الانطباع والتأثر السريع. ولعلّ هذا البثَّ الحيَّ لمآسينا في الإعلام والتداول في مواقع التواصل ومواقع الفيديو وغيرها، هو الذي أوحى لهؤلاء الشعراء أنْ يحرّروا الشعرَ من سكونيةٍ طقوسيةٍ، ويذهبوا به إلى الفضاء المفتوح، ليصوّرَ مرارةَ الإحساس بالحياة، يقول أحدُ شعراء المجموعة (حسن تحسين) واصفاً تلك المرارة بـ: “العيش تحت ضراط الوقت” أو كما يقول علي ذرب مُصوّراً اللحظةَ المأساويةَ: “أقفُ أمام مصيرٍ لا تكفيني أقدامُ الأحياءِ جميعُها للهَرَبِ منهُ”. وفي ذلك الفضاء المفتوح، يُطلقون العنانَ لأصواتهم المشاغبة الرافضة لكلّ الأنساق القيمية التي أنتجتْ هذا الواقعَ المأساويَّ كما في قصيدة كاظم خنجر: سيارة مفخخة لحظة انفجارها الحيّ:
جناحٌ للقطةِ على سياجِ دائرةِ الكهرباءِ.
جناحٌ للسياجِ.
جناحٌ لسبعةِ عمالِ بناءٍ.
جناحٌ لرأسِ بائعِ الخضروات.
جناحٌ للخضروات.
جناحٌ لساقَيِّ الطفلةِ وهي في طريقِها إلى المدرسة.
جناحٌ لحقيبتِها.
جناحٌ لجلودِ ركابِ الباص.
جناحٌ للدراجةِ الهوائيةِ وراكبِها والخبزِ الذي معه. جناحٌ للإسفلتِ وأعمدةِ الكهرباءِ ولافتاتِ المحال.
جناحٌ لطبلةِ الأذن.
جناح للعاجلِ في التلفاز.
هكذا هي السياراتُ المفخخةُ وهي تمنحُ الأجنحةَ لكلِّ شيءٍ. [كاظم خنجر]
ومثلما تغيّرَ مفهومُ القارئ المثاليّ فقد تغيّرَ مفهومُ المؤلف التقليديّ أو المحترف، إلى المؤلف الفضائيّ الذي أصبحَ يُنتجُ نصوصاً تطورتْ بمرور الوقت، وبعضُ هذه النصوص وصلتْ إلى النضج الفنيّ، فنُشرتْ في كتبٍ مطبوعةٍ وربما خَضَعَتْ لقراءاتٍ نقديةٍ واهتماماتٍ صحفيةٍ بعضُها نشأَ في عالَـم الشبكة العنكبوتية أيضاً. وهكذا، فإنّ هذه القصائدَ تشكلتْ في سياقِ فَزَعِ الصورةِ الذي أصبح ينتشرُ أسرعَ من انتشار النار في الهشيم. ويشعر المرءُ بوقْع هذه الصورة المرعبة على الآخرين في مواقع التواصل الاجتماعيّ المعروفة، أو من خلال مواقع الفيديو (في مقدمتها اليوتيوب) التي تلامسُ الحقيقةَ كثيراً بعرْض صورةٍ بلحمها ودمها وهو يسيلُ بعيداً عن عيون الله: “نشروا صورةَ جثتِهِ على الفيسبوك، أخي الأصغر، وبعدها عجزنا عن العثورِ عليها، قمنا بطباعة الصورة، تغسيلها، تكفينها، ودفنها في مقبرةِ العائلةِ. [كاظم خنجر]
هذه الحساسيةُ الجديدةُ، قوّضتْ مفهومَ المؤلف التقليديّ الذي كان يتخيلُ أو يتوهمُ المثيرات إلى المؤلف المندمج في واقعها والواقع تحت تأثيرها ورعبها. وانتشر المؤلفُ الفضائيُّ على نحوٍ مذهلٍ من خلال المدوّنات الشخصية والبوستات الفيسبوكية التي نُشرتْ كنصوصٍ حظيتْ بتعليقاتٍ عديدةٍ ولايكات إعجابٍ لا حصرَ لها أو من خلال التغريدات التي نالتْ نسبةً عاليةً من الريتويتات والتعليقات، مما وفّرَ لها فرصةَ المغامرة وولوج عالـَم التأليف والنشر، أو بعبارة أخرى: اقتحامُ عالـَم الاحتراف، واختراقُ الحدود الوهمية. ولم يقتصرْ هذا على النصوص المكتوبة، وإنما طالَ تأثيرُ مابعد الحداثة السينما ووسائل الإعلام وغير ذلك. ففي السينما جرى تحويل الخيال المستحيل إلى الخيال الممكن [ أفلام: ملك الخواتم، هاري بوتر] وكذلك عبْرَ سلسلة الأفلام التي سُمّيَتْ Three Dimensional/3D [فيلم: Avatar]. وهكذا، فإنّ هذه القصائدَ التي مثّلَت المستحيلَ في لحظةِ اشتباكٍ ممكنةٍ مع مخلفات الموت، تتطلعُ إلى نقْلِ الشعرِ إلى جبهة المواجهة مع المصير في لحظةٍ ينكشفُ فيها كلُّ شيءٍ ولا ينكشفُ في الوقت ذاته. لحظة يكون فيها الشعرُ ذا شأنٍ، ولحظة تكشفُ عن الضعف الهائل في هذه الوسيلة وهي تقارعُ اللاجدوى. ولذلك، فإنها جازفتْ بأنْ تجعلَ غيرَ الممكن ممكناً، كقراءة الشعر قربَ الجثث في لحظة إيهامٍ بأنّ الموتى المغدورين يستمعون إلى تلك القصائد في حالةٍ من التماثل بين الواقع وصورته السوريالية المفترضة، بين المعقول واللامعقول، بين الحقيقة والأسطورة، أو تصوير حالة الذعر لدى العالقين في حقلٍ للألغام، يقول علي ذرب: “في حقلِ الألغامِ كان جزئي الأعلى غيرَ محسوسٍ أبداً، كانت أقدامي هي من تفكّرُ وتتذكرُ وتقرأُ وتصرخُ وتتنفسُ وتُدخّنُ أيضاً”. لكنّ هذا الذعرَ لم يكنْ متخيلاً وإنما سعى إليه الشعراءُ أنفسُهم وعايشوا لحظات الرعب الحقيقية. وهذه القصائدُ تتخذُ من ذلك الأسلوب الشعريّ وسيلةً للتفكير بمفهوم الكينونة نفسه: كينونة الزائل، وزوال الكائن. إنها قصائدُ تماثلُ، في سورياليتها، فوضى الواقع العراقيّ ولا معقوليته. وبذلك يصبح الشعرُ مجالاً يتعدّى حالةَ الاكتفاء بالتصوير الخارجيّ للواقع، ويتعدّى لحظةَ الشعور بلذة الكتابة، إلى حَقْنِ الشعر بمضاداتٍ حيويةٍ ضدّ فيروسات الخضوع لهذا الواقع. ويَحْقنُ الشعرَ بما يؤهلُهُ ليقودَ ثورةً عارمةً ضدَّ السلطات الضالعة في صناعة هذا الواقع المأساويّ. ولعلّ المظهرَ الجنونيّ أو اللامعقول في هذا الشعر، يرمي إلى فضح ما يبدو على أنه قيمٌ عقلانية تتحكمُ بمصائر الإنسان العراقيّ، أو بكلماتٍ أخرى، فضحُ السلطة الدينية بمختلف أشكالها المسؤولة عن المآل الذي آلَ إليه المجتمع العراقيّ بعد تغيير النظام الدكتاتوريّ. فالسلطةُ لا تزولُ وإنما تبدّلُ أقنعتَها القديمةَ بأقنعةٍ جديدةٍ، وهذا هو الحالُ بالعراق بعد انهيار الدولة الدكتاتورية. فهذه القصائدُ تفضحُ تمظهرات السلطة وتفضحُ وجوهَها الـمُقَنَّعةَ: “راسُ القاضي عمامةُ المطرقة”، “المحامي حراميٌّ مُـجازٌ من قبل الذمّة”، “المدعي العام عذراً المدعي العار”، “المدعي يكنسُ دعواهُ بأول جلدةٍ”. [حسن تحسين]
إنّ هؤلاء الشعراءَ، الذين تشكلتْ نواتُهم في ذروة عنفوان الإرهاب في العراق في سنة 2005 حاولوا بلوغَ الدرجة القصوى للاقتراب من الكارثة والإحساس بواقعها وآلامها. وحاولوا تعويضَ تخلّي الشعر العراقيّ عن وظيفته في مقاومة الهجمات المسعورة للسلطة على الواقع والحياة، فقد عُرِفَ عن الشعر العراقيّ مُلازمتُهُ لقضايا الواقع. وهذه الوظيفة الجديدة للشعر تُـجرّدُهُ من أنْ يكونَ مجردَ قيمةٍ متعاليةٍ نابعةٍ من قلوبٍ باردةٍ، أو مجرّدَ تـَمركزٍ حول الذات وإعلان انفصالها عن واقعها.
وعلى هذا، فإنّ مفهومَ الشعر اللانهائيّ، لا يريدُ أنْ تَستنفدَ القصيدةُ طاقتَها في حدود اللغة المحايدة وحدها، ولا تحتكرَ طريقةَ كتابتها ولا أساليبَ تأويلها. فهذه القصيدةُ تتطلعُ إلى طاقةٍ لا نهائيةٍ تستوعبُ هذا الألـمَ اللانهائيّ في الحياة. والقصائدُ لدى هذه المجموعة من الشعراء، خرجتْ من أحشاء الواقع العالق في وحل الموت والفجائع التي تُـخَلّفُها المفخخاتُ والمسدساتُ الكاتمةُ والعبواتُ الناسفة والعبواتُ اللاصقة وغير ذلك من التسميات أو الأقنعة التي يتقنّعُ بها الموتُ في الحياة العراقية الجديدة في ظل الحكم الدينيّ.
إنّ الصورَ الصادمةَ في قصائد هؤلاء الشعراء، هي صورٌ تعرضُ الدوافعَ الخَفيّةَ للرفض والمواجهة، فهي تعيدُ صوغَ ما يَفْلِتُ من رقابة الوعي. فموضوعةُ القلق بوصفه إفرازاً لواقع الحرب، تشكّلُ عائقاً بوجه نموّ علاقةِ تصالحٍ مع ذلك الواقع على نحوٍ يجعلُ الانسجامَ معه مسألةً مستحيلةً. ويجعلُ، في الوقت نفسه، الانسجامَ مع لغته وأساليبه في التفسير والتسويغ أمراً لا يمكنُ قبولُهُ. ولذلك، فإنّ الرفضَ والمواجهةَ بالصور السوداء الصادمة هو كشفٌ وتعريةٌ لقبائح هذا الواقع المتمثلة في المفخخات المحترقة وسيارات الإسعاف التي لا ينشفُ الدمُ في قُمرتها الخلفية وحقول الألغام والمقابر الجديدة التي لا تريد أنْ تمتلئَ. كلُّ ذلك، هو الوجهُ القبيحُ، المتجهّمُ والكابي للحياة العراقية بفضل نار الكراهية التي أوقدَها رجالُ الدين، فخرّبوا البلادَ وقتّلوا العبادَ.
إنّ تأمّلَ النسيج اللسانيّ لهذه القصائد، يمنحُنا انطباعاً بأنّ اللغةَ ينتابُها الخوفُ والقلقُ على نحوٍ دائمٍ مثلما ينتابُ الإنسانَ، ولذلك فهي تنبثقُ كما تنبثقُ سلوكياتُ الخوف والقلق. إنها ولادةٌ جديدةٌ بعيداً عن الحبل السرّيّ الذي يربطُها بعالَـم الدلالات القديمة. فهي تنطوي أحياناً، على إلماعاتٍ تتضمنُها بعضُ الجمل التعبيرية، وفي أحيانٍ أخرى تبقى بعض الجمل مرتبطةً بالذاكرة الشعرية الموروثة من الأجيال القديمة أو الحديثة.
فاللغةُ في هذا النسيج اللسانيّ تكتسبُ دلالتَها من علاقاتها بسائر عناصر النسيج. وقد اُدمِجَت اللغةُ الفصحى باللغة المستعملة فعلاً في المجتمع لفسح المجال لتلك اللغة الدارجة لكي تؤدي وظيفةَ الضغط على بعض المعاني السوداء التي يؤكدُها النصُّ ويمنحُها امتيازاً خاصاً.
والتجاربُ اللغويةُ في هذه القصائد، تتنوّعُ بين الكثافة الموحية التي لا تريدُ أنْ تفصحَ عن كلّ شيءٍ رغبةً في تنشيط فعل التأويل لدى المتلقي، وبين الإفراط فيها لتكثيف الضغط التأثّريّ على المتلقي من خلال موسيقى الانثيال اللغويّ والتدفّق الحرّ.
ليس ثمة تخطيطٌ مسبقٌ للشكل والموسيقى واللغة كما الحياة في تدفقها العفويّ وكما الأحداث في لحظة وقوعها حتى لكأنك أمام مجموعة من الشعراء الذين لا يجيدون مهارةَ كتابةِ قصائد ضمن نطاق القوالب المعروفة وتقاليدها. فالموسيقى تتشكلُ من إيقاعات الحدث في لحظة توهّجه بوصفه فعلاً يتجاوزُ حدودَ المعقول. ولكي يقبضَ هؤلاء الشعراءُ بجذوة الحدث لحظة وقوعه، فإنهم ركّبوا لمخلّفاته لساناً وشفتين وجعلوهُ يحكي ويستمرُّ في الحكي على نحوٍ يُحدثُ الرَّجَةَ الانفعالية للوعي البارد والـمُتَخَشِّب وللعقل البليد. أما بلاغةُ النصّ، فهي تتمثّلُ في تحفيز اللغة وشحنها بطاقةٍ إضافيةٍ تمكّنُها من تجسيم المعاني المحسوسة وغير المحسوسة، وتجسيم الأفعال والوقائع بما يَـمنحُها كينونةً في عالَـمٍ يسودُهُ العقلُ الـمُزيَّفُ.