لمحة تاريخية
منذ العصور القديمة، كان العراق وإيران دولتين وإمبراطوريتين متنافستين. فبلاد ما بين النهرين، التي تُعرف اليوم بالعراق، كانت موطناً للإمبراطوريات الآشورية والبابلية، وكذلك العباسية في القرون الوسطى. أما السلالات الأخمينية، والصفوية في القرون الوسطى، وقاجار مبكرة الحداثة فقد حكمت بلاد فارس.
وللعراق أهمية خاصة بالنسبة لإيران منذ أن جعلت السلالة الصفوية، الشيعية الدين الرسمي للدولة في القرن السادس عشر. فالإسلام الشيعي وُلد في العراق. كما أن المدن الشيعية المقدسة النجف وكربلاء هي مراكز شيعية تقليدية للتعلم ووجهة للحجاج الدينيين. وعلى مدى عدة قرون، كان الحضور الفارسي في المدينتين المقدستين قوياً جداً. ونتيجة لذلك، تعتبر إيران جنوب العراق جزءاً من مجال نفوذها التاريخي.
وقد استمرت هذه الخصومة القديمة حتى العصر الحديث. فقد حاولت الجمهورية الإسلامية التي أنشئت حديثاً تصدير الإيديولوجيا الإسلامية إلى العراق، مما أعطى الرئيس العراقي السابق صدام حسين ذريعة للغزو الذي شنه في عام 1980. فمن جهته حاول الرئيس العراقي توجيه ضربة قاتلة ضد منافسه الإقليمي الأبرز والاستيلاء على ثروته النفطية. وبدلاً من ذلك، أدى ذلك الغزو إلى حرب طويلة، دموية وغير حاسمة استمرت ثماني سنوات وقتلت وجرحت أكثر من مليون نسمة.
وبالتالي، فإن الإطاحة بصدام حسين على يد القوات الأمريكية وقوات التحالف عام 2003 شكّلت فرصة تاريخية لإيران لتوسيع نفوذها في العراق، ولتحويله من عدو إلى شريك أو حليف. كما أن إنشاء ما يسمى بـ تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش») أو «الدولة الإسلامية» في شمال العراق وغربه في عام 2014 سمح لإيران بتعزيز نفوذها في بغداد وتقديم نفسها كحامية للعراق. ووفقاً لمجرى الأمور في عام 2015، يبقى لنا أن نرى ما إذا كانت ستنجح في تحقيق هذه الأهداف.
الاستراتيجية السياسية
منذ سقوط نظام صدام حسين في عام 2003، حاولت إيران التأثير على السياسة العراقية من خلال العمل مع الأحزاب الشيعية والكردية لإنشاء دولة فدرالية ضعيفة يهيمن عليها الشيعة وتكون أكثر انصياعاً للنفوذ الإيراني. وكانت طهران قد دعمت الجماعات المسلحة والميليشيات [الشيعية] أيضاً، وعززت من قوتها الناعمة في المجالات الاقتصادية والدينية والمعلوماتية.
وقد قامت استراتيجية إيران على توحيد الأحزاب الشيعية في العراق لكي تتمكن هذه الأحزاب من ترجمة أهميتها الديموغرافية إلى نفوذ سياسي، وبالتالي تعزيز السيادة الشيعية في بغداد. من هنا، شجعت طهران أقرب حلفائها، أي فيلق «فيلق بدر» و «المجلس الأعلى الإسلامي في العراق» و «حزب الدعوة الإسلامية» والتيار الصدري، على المشاركة في الحياة السياسية والمساعدة في تشكيل المؤسسات الناشئة في العراق. وقد دعمت طهران مجموعة من الأحزاب والحركات المختلفة لتوسيع خياراتها وضمان تقدم مصالحها، بغض النظر عن الطرف العراقي الذي يصل إلى القمة.
الحلفاء المحليون
أنشئ «المجلس الأعلى الإسلامي في العراق» من قبل مغتربين عراقيين في طهران عام 1982، وكان مقره في العاصمة الإيرانية إلى حين عودة هؤلاء إلى العراق في عام 2003. أما الميليشيا التابعة له، «فيلق بدر»، فقد قام «فيلق الحرس الثوري الإسلامي» بتدريبها والسيطرة عليها وقاتلت إلى جانب القوات الإيرانية خلال الحرب بين إيران والعراق. وبعد عام 2003، دخل الآلاف من رجال «ميليشيا بدر» من إيران إلى جنوب العراق للمساعدة في تأمين ذلك الجزء من البلاد.
وفي وقت لاحق تم دمج العديد من مقاتلي «فيلق بدر» في قوات الأمن العراقية، وخاصة الجيش والشرطة الوطنية. وقد قاد عمار الحكيم «المجلس الأعلى الإسلامي في العراق» منذ وفاة والده عبد العزيز الحكيم في عام 2009.
وفي عام 2012، انشقت «منظمة بدر» عن «المجلس الأعلى الإسلامي في العراق»، وعملت منذ ذلك الحين كطرف مستقل. وبعد سقوط الموصل بيد تنظيم «الدولة الإسلامية» في حزيران/ يونيو 2014، تزعمت «منظمة بدر» وقائدها هادي العامري، الحملة العسكرية ضد تنظيم «داعش»، مما عزز إلى حد كبير من صورة المنظمة السياسية على الصعيد الداخلي. واعتباراً من عام 2015، أصبح هادي العامري أحد أقرب حلفاء طهران في العراق.
أما «حزب الدعوة الإسلامية»، الذي تأسس في أواخر الخمسينات، فقد تمتع بدعم الجمهورية الإسلامية خلال المرحلة الأخيرة من وجوده السري في العراق. وبعد 2003، انضم «حزب الدعوة» إلى العملية السياسية، ولكن إمكاناته كانت محدودة بسبب افتقاره إلى ميليشيا مسلحة. وقد اختير زعيمه نوري المالكي من قبل «المجلس الأعلى الإسلامي في العراق» و”التيار الصدري” الأكثر قوة كحل وفاقي لرئاسة الوزراء في عام 2005، لكن المالكي استخدم منصبه في وقت لاحق لبناء قاعدة قوة في الحكومة والجيش، وعملت أجزاء من هذه القاعدة كميليشيا شخصية وحزبية. وبعد انتخابات عام 2014، تم استبدال المالكي بحيدر العبادي كرئيس للوزراء – وهذا الأخير هو عضو آخر في «حزب الدعوة».
لقد كان المالكي متقارباً بشكل عام من النظرة الإسلامية الشيعية في طهران، ولكن ليس من عقيدتها حول ولاية الفقيه. وحيث أخذ بعين الاعتبار اعتماده على واشنطن من أجل البقاء، حاول السير في طريق وسطي بين طهران وواشنطن، وتجنب احتضان كامل لطهران.
أما العبادي، الذي قضى سنوات في المنفى في المملكة المتحدة، فقد مثّل ميلاً أقل نحو الانعزالية داخل الحزب. إلا أنه تابع سياسة المالكي بمحاولة شق طريق وسطي بين واشنطن وطهران، والدعوة للمصالحة مع العرب السنة في العراق في الوقت نفسه. لكن تأثير العناصر الطائفية داخل “ائتلاف دولة القانون” الذي ينتمي إليه و”التحالف الوطني العراقي” الحاكم منعه من تنفيذ هذه الأجندة.
وقد ظهر “التيار الصدري” كقوة رئيسية في السياسة العراقية والشارع العراقي منذ عام 2003. واستغل زعيمهم مقتدى الصدر اسم عائلته بصفته الإبن الوحيد على قيد الحياة لآية الله الموقور محمد صادق الصدر الذي اغتيل على يد عملاء النظام في عام 1999. كما أن خطابه الشعبوي والمناهض للولايات المتحدة والقوة والمحسوبية التي تقدمها له ميليشيا «جيش المهدي»، التي أُعيدت تسميتها مؤخراً بـ «سرايا السلام»، عززت جميعها من تأييده بين الفقراء في مناطق الشيعة الحضرية.
وعلى الرغم من انحيازه السياسي مع «المجلس الأعلى الإسلامي في العراق» و «منظمة بدر» و «حزب الدعوة»، كانت للتيار الصدري أيضاً علاقة مثيرة للجدل وعنيفة مع العديد من هذه الأحزاب. فقد فرّ الصدر إلى إيران في عام 2007 لتجنب استهدافه من قبل القوات الأمريكية والعراقية، ولمواصلة دراسته الدينية. وعاد إلى العراق في عام 2011 واستمر في لعب دور هام في السياسة العراقية، على الرغم من أنه غالباً ما نأى بنفسه عن السياسات الإيرانية.
أما الأحزاب الكردية، أي «الحزب الديمقراطي الكردستاني» و«الاتحاد الوطني الكردستاني»، فتربطها علاقات طويلة الأمد مع إيران. فقوات “البيشمركة” الكردية قاتلت إلى جانب إيران خلال الحرب بين إيران والعراق. كما قامت طهران بتسليح «الاتحاد الوطني الكردستاني» أثناء قتاله مع «الحزب الديمقراطي الكردستاني» بين عامي 1994 و 1998. ولا تزال إيران تتمتع بعلاقات وثيقة مع «الاتحاد الوطني الكردستاني» و «الحزب الديمقراطي الكردستاني»، وكذلك مع «حكومة إقليم كردستان» في شمال العراق. وفي الماضي، وجهت طهران ضربات مدفعية عبر الحدود بين الحين والآخر ضد المقاتلين الإيرانيين الأكراد المتمركزين في شمال العراق، على الرغم من أن هذه الأنشطة قد تراجعت في السنوات الأخيرة. كما أن علاقة إيران مع الأكراد قد تحسنت وأصبحت «حكومة إقليم كردستان» شريكاً تجارياً هاماً لإيران، التي هي مركز لخرق العقوبات الدولية المفروضة على الجمهورية الإسلامية.
وسائل التأثير
تمارس إيران نفوذها من خلال سفارتها في بغداد وقنصلياتها في البصرة وكربلاء وأربيل والسليمانية. كما أن كلا سفيريها في بغداد بعد عام 2003، حسن كاظم قمي وحسن دانائي فر – الذي ولد في العراق ولكن صدام حسين طرد عائلته، قد خدم في «قوة القدس» النخبوية التابعة لـ «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني. وبالتالي، يعكس تعيينهما دور الأجهزة الأمنية الإيرانية في صياغة السياسة في العراق وتنفيذها. فـ «قوة القدس» هي وحدة «الحرس الثوري» المسؤولة عن العمليات الخارجية السرية الأكثر حساسية في ايران.
وقد أفادت بعض التقارير أن إيران حاولت التأثير على نتائج الانتخابات البرلمانية في عامي 2005 و 2010 وانتخابات مجالس المحافظات في عام 2009 من خلال تمويل المرشحين المفضلين لديها وتقديم المشورة لهم. كما يُقال إن قائد «قوة القدس» قاسم سليماني لعب دوراً رئيسياً في المفاوضات لتشكيل الحكومة العراقية عام 2005. وقد أفادت بعض التقارير أيضاً أنه توسط في وقف إطلاق النار بين «المجلس الأعلى الإسلامي العراقي» و «جيش المهدي» في عام 2007، وبين الحكومة العراقية و «جيش المهدي» في عام 2008. كما قامت إيران، من دون جدوى، بتشجيع «المجلس الأعلى الإسلامي في العراق» و «حزب الدعوة الإسلامية» و”التيار الصدري” لخوض الانتخابات في كتلة موحدة في عام 2010. وبعد انتخابات عام 2010، وردت بعض التقارير بأن رئيس “مجلس الشورى” الإيراني علي لاريجاني حث هذه الأحزاب على تشكيل حكومة ائتلافية.
ولعبت إيران دوراً أقل أهمية في عملية تشكيل الحكومة عقب الانتخابات عام 2014. فقد تم استبدال مرشحها المفضل لرئاسة الوزراء، نوري المالكي، بحيدر العبادي بناءً على طلب من الولايات المتحدة، والأهم من ذلك، آية الله العظمى علي السيستاني. وبعد ذلك لعب الأدميرال علي شمخاني، أمين عام “مجلس الأمن القومي” الإيراني، دوراً رئيسياً في عملية تشكيل الحكومة (كبديل لسليماني الذي أصبح غير ملائم لهذه المهمة بسبب دعمه المتواصل لولاية ثالثة للمالكي).
وقد تنافست إيران أيضاً على “القلوب والعقول” العراقية من خلال بث الأخبار والبرامج الترفيهية باللغة العربية في العراق (والعالم العربي) عبر شبكة “قناة العالم”. فقد عكست برامج هذه القناة ما تريد طهران أن تروجه عن الأخبار المتعلقة بالمنطقة. هذا وكان قد تم إطلاق “قناة العالم” عشية الغزو الأمريكي للعراق عام 2003.
الميليشيات والمسلحين
خلال فترة الاحتلال، شجعت إيران حلفاءها السياسيين العراقيين على العمل مع الولايات المتحدة. ولكن «قوة القدس» قامت بتسليح وتدريب وتمويل الميليشيات المرتبطة بهذه الأطراف، فضلاً عن الجماعات المتمردة المتشددة التي هاجمت القوات الأمريكية. ولا تزال هذه الجماعات تقدم لطهران وسيلة للانتقام من 3500 مستشاراً ومدرباً أمريكياً حالياً في العراق، إذا ألحقت الولايات المتحدة (أو إسرائيل) أضراراً بالمصالح الإيرانية في أماكن أخرى في المنطقة.
بعد عام 2003، ركزت إيران مواردها في البداية على حلفائها التقليديين في «فيلق بدر» التابع لـ «المجلس الأعلى الإسلامي في العراق». لكنها سرعان ما وسّعت من مساعداتها لتشمل «جيش المهدي» التابع لـ “التيار الصدري”، والجماعات الخاصة المرتبطة بها وحتى بعض الجماعات السنية المسلحة. كما أنها استخدمت في بعض الأحيان عناصر «حزب الله» اللبناني الناطقين باللغة العربية لتسهيل هذه الجهود.
لقد ثبت أن دعم إيران لـ «جيش المهدي» يطرح إشكالية بشكل خاص. فقد توسعت ميليشيات الصدر توسعاً كبيراً بعد عام 2003، مما أدى إلى دمج العديد من العناصر الإجرامية في صفوفها. كما أن أجندة الميليشيا المتطرفة ومنافستها على السلطة داخل الطائفة الشيعية سرعان ما جرتها إلى صراع مع كل من «المجلس الأعلى الإسلامي في العراق» والحكومة العراقية، الأمر الذي أدى بالتالي إلى تقويض الجهود الإيرانية لتوحيد الطائفة الشيعية.
وقد أفادت بعض التقارير أيضاً إن إيران قد سهّلت أنشطة «جماعة أنصار الإسلام» – جماعة جهادية سلفية في شمال العراق – التي مكنت طهران من ممارسة النفوذ على «حكومة إقليم كردستان» وأمّنت مدخلاً إلى الدوائر الجهادية السنية.
وبحلول عام 2010، كانت إيران قد ضيقت من نطاق دعمها لثلاث جماعات شيعية مسلحة: «لواء اليوم الموعود» التابع للحركة الصدرية وهو خليفة «جيش المهدي» ، وجماعتين خاصتين: «عصائب أهل الحق» و «كتائب حزب الله». وتفيد بعض التقارير أن مستشارين إيرانيين عادوا إلى العراق في منتصف عام 2010، إلى جانب نشطاء «كتائب حزب الله» الذين تدربوا في إيران لشن هجمات على القوات الأمريكية مع تقلص عددها. وقد كمن هدفهم في خلق انطباع يوحي بأن الولايات المتحدة أُجبرت على الخروج من العراق.
وبعد الانسحاب الأمريكي من العراق في عام 2011، تنحت العديد من هذه الجماعات. ولكن عندما استولى تنظيم «داعش» على الموصل وبدأ يتقدم نحو بغداد، أصدر آية الله العظمى السيستاني فتوى تدعو العراقيين إلى الالتفاف حول “قوات الأمن العراقية” للدفاع عن بلدهم وشعبهم وأماكنهم المقدسة. وقد تم تنظيم أعداد هائلة من الشيعة الذين تطوعوا في مختلف الميليشيات المعروفة باسم «وحدات الحشد الشعبي».
وتم تنظيم المتطوعين ضمن أكثر من 50 ميليشيا جديدة، وبلغ عددهم ما بين 60 و90 ألف رجل. وقد كان العديد منهم مسلحين من قبل إيران ويعكسون التوجه الإيديولوجي الخاص بالخميني. وقد لعبت هذه الجماعات، إلى جانب حلفاء إيران التقليديين مثل «منظمة بدر» و «عصائب أهل الحق» و «كتائب حزب الله»، دوراً قيادياً في القتال ضد تنظيم «الدولة الإسلامية». إلا أن هذه التنظيمات كانت جهات طائفية اعتمدت نهجاً عسكرياً حازماً، وشاركت في كثير من الأحيان في انتهاكات حقوق الإنسان ضد العرب السنة. وبالتالي فإنها ساهمت أيضاً في الاستقطاب الطائفي في المجتمع العراقي.
ووفقاً لمجرى الأمور في عام 2015، بقيت التداعيات الطويلة الأمد لبروز «وحدات الحشد الشعبي» غير واضحة. وسيعتمد حيز كبير من هذه التداعيات على ما إذا كان سيتم دمج هذه الوحدات بـ ” قوات الأمن العراقية” في النهاية أو إذا كانت ستشكل نقطة انطلاق للسياسيين الشيعيين المتشددين الطموحين الذين يسعون إلى ترجمة إنجازاتهم العسكرية إلى رصيد سياسي. كما يمكن أيضاً أن تبقى كقوة عسكرية موازية يستخدمها السياسيون الشيعة الشعبويون المتطرفون للضغط على الحكومة، أو تستخدمها إيران لدفع مصالحها في العراق، بطريقة مماثلة لما يفعله «حزب الله» في لبنان.
التجارة
حافظت إيران على علاقات تجارية واقتصادية مع العراق من أجل تحقيق مكاسب مالية وكسب النفوذ على جارتها. ووفقاً لبعض التقارير تشكّل إيران أكبر شريك تجاري للعراق، حيث يدّعي مسؤولون إيرانيون وعراقيون أن إجمالي حجم التجارة بين البلدين بلغ 12 مليار دولار في العامين 2013 و2014. إلا أن الإحصائيات الرسمية الإيرانية تظهر أن إجمالي التجارة بلغ حوالي 6 مليارات دولار في تلك الفترة، وجاءت غالبية هذا المبلغ من الصادرات الإيرانية إلى العراق. وتتكون الصادرات من الفواكه والخضار الطازجة والمواد الغذائية المصنعة ومواد البناء والأجهزة المنزلية الرخيصة والسيارات. كما ينشط المستثمرون الإيرانيون وشركات البناء في بغداد، وجنوب العراق ذات الغالبية الشيعية، وكردستان.
إن تكديس إيران لمنتجات غذائية وسلع استهلاكية رخيصة ومدعومة في العراق (إلى جانب سياسات الحكومة العراقية ذات النتائج العكسية) ألحقت الضرر بالقطاعات الزراعية والصناعية الخفيفة في العراق، مما أثار استياء العراقيين. فبناء السدود وتحويل الأنهار التي تغذي ممر شط العرب المائي الذي تقوم به إيران أدى أيضاً إلى إلحاق الضرر بالزراعة العراقية في الجنوب وعرقلة الجهود المبذولة لإحياء الأهوار العراقية. وعلى الرغم من أن إيران سدت النقص في الكهرباء في العراق من خلال توفير حوالي 5 إلى 10 في المائة من الإمدادات المتاحة في العراق (وهذه النسبة أعلى بكثير في عدة محافظات على الحدود الإيرانية)، يعتقد الكثير من العراقيين أن إيران تلاعبت أحياناً بهذه الإمدادات لأغراض سياسية.
التأثير الديني
تعمل إيران على ضمان الأسبقية لرجال الدين الذين تدربوا في قم، المنغمسين في الأيديولوجية الرسمية للجمهورية الإسلامية، وتفضيلهم على رجال الدين الذين تدربوا في حوزات النجف غير السياسية نسبياً والتي تعتمد “موقف السكينية”، [أي الهدوء واللافعالية السياسية]. وتهدف من وراء ذلك إلى ضمان كَوْن نسختها من الإسلام الأيديولوجيا السائدة بين الشيعة في جميع أنحاء العالم.
وقد تكون إيران حالياً مستعدة لتحقيق هذا الهدف، ويرجع ذلك إلى:.
استخدامها المُسرف لأموال الدولة من أجل أنشطة رجال الدين المسيّسين.
وفاة آية الله العظمى حسين فضل الله في عام 2010، وهو رجل دين لبناني مؤثر تلقى تدريبه في النجف.
السن المتقدمة لآية الله العظمى علي السيستاني، أهم أعضاء مرجعية النجف وأحد المراجع الدينية، أو مصدر إقتداء، لـ 80 في المائة من الشيعة تقريباً. وقد وُلد في عام 1930 ويُقال إنه مريض.
لقد أصبح العراق مقصداً رئيسياً للسياح الدينيين الإيرانيين. فمن العامين 2013 و2014، زار 1.2 مليون سائح ديني إيراني العتبات المقدسة في النجف وكربلاء والكاظمية وسامراء. وبالمثل، فخلال تلك الفترة، زار 1.7 مليون عراقي إيران. وتستثمر الجمهورية الإسلامية عشرات الملايين من الدولارات سنوياً لبناء المرافق السياحية للحجاج الإيرانيين وتحسينها.
حدود النفوذ
على الرغم من الاستثمارات الكبيرة لتوسيع نفوذ إيران في العراق، أسفرت جهود طهران عن نتائج متباينة فقط. وقد ثبَت أن هدف الوحدة الشيعية في العراق بعيد المنال. فالعلاقات بين عملاء إيران العراقيين غالباً ما كانت محفوفة بالتوتر والعنف، وقد أمضت إيران الكثير من الوقت والجهد في التوسط بينهم. وقد أصبح تدخل طهران في السياسة العراقية يشكل عبئاً ثقيلاً في بعض الأحيان، الأمر الذي أدى إلى رد فعل قومي عنيف ضد إيران وحلفائها المحليين.
إلا أن بروز تنظيم «داعش» ورد إيران السريع بالسلاح والدعم العسكري والمستشارين بعد سقوط الموصل (بالمقارنة مع الرد الأمريكي البطئ والمقيّد نسبياً)، قد خلق فرصاً لإيران لتصوير نفسها على أنها منقذة العراق. وقد عزز سلوكها منذ ذلك الحين من مكانتها في نظر الكثير من العراقيين.
ومع ذلك، بالغت إيران أحياناً في الأمر. إذ تفاخر مسؤولون، من قاسم سليماني وصولاً إلى مستشار الرئيس ووزير الاستخبارات السابق علي يونسي، بالنفوذ الإيراني في العراق، الأمر الذي أثار ردود فعل غاضبة بين العراقيين. كما أن المنهجية العسكرية التي تفضلها إيران، أي الاعتماد على «وحدات الحشد الشعبي»، لم تسفر عن نتائج عسكرية حاسمة بحلول أواخر عام 2015، في حين ساهمت في الاستقطاب الطائفي في المجتمع العراقي. ومع ذلك، فإن التحفظ وضبط النفس اللذان تعتمدهما الولايات المتحدة، من المرجح أن يكونا تأكيداً على أن إيران لا تزال تلعب دوراً عسكرياً كبيراً في العراق، على الأقل طالما لا يزال تنظيم «الدولة الإسلامية» يشكل تهديداً وشيكاً، وأن العراق يثبت أنه غير قادر على التعامل مع هذا التهديد بمفرده.
التوجهات
تضمن الجغرافيا والسياسة والاقتصاد والدين احتفاظ إيران بنفوذ كبير في العراق. إذ دائماً سيكون هناك عراقيين على استعداد للدخول في شراكة مع إيران لأسباب عملية أو أيديولوجية أو أخرى تتعلق بالمرتزقة، وخاصة طالما يُنظر إلى إيران كقوة صاعدة وقائدة لأكثر المحاور تماسكاً في المنطقة.
لا تزال القومية العراقية والسياسات الإيرانية الخاصة وسلوك طهران المتعالي في بعض الأحيان، هي التي تشكّل القيود الأكثرة قوة على النفوذ الإيراني في العراق. ولكن من دون بذل جهود أمريكية مصممة على موازنة الوجود الإيراني، ستبقى إيران القوة الخارجية الأكثر نفوذاً في العراق.
على المدى الطويل ستعتمد علاقات العراق مع إيران إلى حد كبير، على وضعها الأمني (لا سيما مصير تنظيم «الدولة الإسلامية»)، والنسيج السياسي لحكومتها، ونوع العلاقة طويلة المدى التي تقيمها مع الولايات المتحدة وجيرانها العرب.
مايكل آيزنشتات هو زميل “كان” ومدير برنامج الدراسات العسكرية والأمنية في معهد واشنطن.