صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

العراق: الاسلام المعتدل والعلمانية المعتدلة

  لم يسعد تاريخ العراق السياسي القديم والحديث، كسعادته بالنجاة من التطرّف الديني والعلماني معاً،…

 

لم يسعد تاريخ العراق السياسي القديم والحديث، كسعادته بالنجاة من التطرّف الديني والعلماني معاً، في حدثين مهمين، باعد بينهما التاريخ، وقارب بينهما الحاضر هما:

 

نجاته من الحنبلية البغدادية في القرن الهجري الثالث، ونجاته مرة اخرى من النموذين العلمانيين المتطرفين الاقصائيين : العلمانية الفرنسية اليعقوبية والعلمانية البلشفية السوفيتية، وهويستهل مطلع القرن العشرين بتاسيس دولته القومية والوطنية الاولى.

 

فقد أسفر الصراع المبكر بين المدنية العباسية البغدادية، والحركة الحنبلية في طورها التأسيسي الاول، عن انحسار هذه الحركة، واقصاء خطابها المتشدد. لصالح مدرستين فقيهيتين معتدلتين هما المدرسة الحنفية التي تميزت بالاعتدال العلمي، والمدرسة الشافعية التي تميزت بالاعتدال المذهبي بقدر تعلق الامر بالمجتمع السني العراقي وإسلام الدولة الرسمي.

 

مع ان احمد بن حَنْبَل فَقِيه عراقي بغدادي، والمدرسة الحنبلية مدرسة فقهية بغدادية النشأة بامتياز، الا ان بغداد العباسية الرسمية، والمجتمع البغدادي، ضاق بعنف هذه الحركة، وميلها للتعصب والفتن، وكثرة اثارة الشغب، من خلال مناكفتها للحنفية والشافعية اللتان سبقتاها في بغداد، اوللأشاعرة،اوللشيعة في محلة الكرخ، اومن خلال اثارة الشغب ضد المظاهر المدنية في بغداد التي اضطرت الخليفة الراضي بالله بفرض منع التجمع عليهم، وان لا يجتمع منهم نفسان في موضع واحد، وذلك لكثرة تشرطهم في مهام الحسبة (ولاية الفقيه الحسبية) وإيقاعهم الفتن المتوالية.

 

ومع ان المؤرخين مثل ابن خلدون وغيره، قد طرحوا عدة تفسيرات لانحسار الحنبلية، وعدم انتشارها، كتوقفهم عن الاجتهاد، اوعدم توليهم القضاء كما طرح ذلك بعض فقهاء الحنبلية انفسهم، الا ان الموقف الأهم بقي هوموقف بغداد الرسمي والمجتمعي من هذه الحركة التي لم تتحرك من بغداد إلا في القرن الرابع، وعجزت عن ان تكون مذهباً للعامة في أي من البلاد الاسلامية، اوالأقاليم التي حكمها الاسلام.

 

لقد بقيت الراديكالية الحنبلية، وما فرخته من تيمية، تتربص لقرون طويلة، وهي تعاني من إقصاء العباسيين ومجتمعهم الحنفي اوالشافعي اوالجعفري في الفروع والأشعري في الأصول، اوالشيعي العبدي في مصر، اوالأيوبي الشافعي في مصر ايضاً، اوالمالكي في معضم دول الخليج. حتى جاءتها الفرصة التاريخية نهاية القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر من خلال تحالف اقامه الداعية الحنبلي المتشدد(محمد بن عبد الوهاب)مع (آل سعود) الذي أتاح من خلال العقد السياسي المبرم بينهما، تسيد المذهب الحنبلي في نجد اولا، وفي تهامة والحجاز لاحقاً.

 

لقد كانت الحنبلية تفشل  كل مرة في العبور شمالاً الى العراق، إذ طرد مؤسس الوهابية من البصرة، كما سبق ان طردت الحنبلية ذاتها من بغداد.

 

وفي ظل الصراع الطائفي في العراق، الذي هوصراع على السلطة، ماضياً وحاضراً، دخلت السلفية الجهادية كحركة ارهابية عالمية لا يقودها العراقيون، لكن العراقيين السنة التحقوا بها، حين وجد بعضهم انها الممثل الاقوى والأعنف، لحمل مشروع السلطة الطائفية مرة اخرى. فلم يكن اعتناق سنة العراق للسلفية الجهادية الوهابية الحنبلية عقائدياً، بقدر كونه خياراً سياسيا يهدف الى استعادة السلطة المفقودة. وقد بسطنا الحديث عن ذلك في مقالنا المطول (سنة العراق: دمار في سبيل البعث).

 

لقد تدرب المجتمع العراقي على التعايش الديني والمذهبي والطائفي كما لم يتدرب اي مجتمع آخر، وتجاورت فيه المذاهب، والمدارس الفقهية، في نشأتها، واستمراريتها، في البصرة، والكوفة، وبغداد، وفي ذات الوقت لم يتوقف الصراع الطائفي اوالمذهبي على السلطة، فكان المجتمع يتفرج احياناً كثيرة، على الحروب العثمانية الصفوية، وما ان تضع الحرب أوزارها، حتى يعود المجتمع العراقي ليمارس حالة التعايش القدري، الذي ظل يمثل الطابع الابرز في تكوينه التاريخي الطويل.

 

لقد سَعُدت التجربة العراقية وهي تنفي التطرّف والتكفير والعنف والتشدد الحنبلي.

 

وسَعُدت مرة اخرى، وهي تنأى بنفسها بعيداً، عن العلمانية اليعقوبية الفرنسية، اوالوليد الأوربي الاخر المتأثر بها الذي مثلته الراديكالية العلمانية البلشفية في روسيا السوفيتية.

 

لقد عانى المجتمع العربي ومحيطه الاسلامي الأكثر فعالية المتمثل في تركيا وإيران، من أشكالية العلاقة بين الدين والدولة، ومنذ تأسيس الدولة الوطنية الحديثة، ظلت هذه العلاقة محل اخذ ورد طويلين، ولم تفلح الدولة في الاهتداء الى مقاربة فكرية وفلسفية، وقانونية، مبكرة، تحتوي هذا التوتر، وتوفر له المجال المناسب للتفاعل، والتكامل، والتخاطب الناجح الذي يؤسس لعلاقة متوازنة تحفظ للدين مجاله الشخصي وللدولة مجالها العام.

 

وقد ادى هذا الخلل البنيوي الخطير الى ظهور ثلاثة نماذج لهذه العلاقة المأزومة بين الدين والدولة في المجتمع الاسلامي هي :

 

 

نموذج إقصاء الدين :

 

وهوالنموذج الذي استلهم التجربتين العلمانيتين الأشد تطرفاً في الموقف من الدين (الفرنسية والروسية) وتعد تركيا الاتاتوركية، وإيران في عهد رضا بهلوي، وتونس في عهد بورقيبة، ابرز ثلاثة تجارب في الدولة الاسلامية تبنت إقصاء الدين عن المجال العام والتضييق عليه في المجال الخاص.

 

 

نموذج التهادن والتعاقد:

 

وابرز أمثلته هو نظام المملكة العربية السعودية، والنظام الملكي المغربي الى حد ما.

 

 

النموذج الاهمالي السائب:

 

وهوالنموذج الذي اهتم ببناء الدولة دون التعرض المباشر لشكل العلاقة مع الدين، واختط لنفسه منهج التدخل لتصحيح شكل هذه العلاقة وتكييفه مع التحولات السياسية، وطبيعة التداخل المستمر بين هذين المجالين.

 

وهذا ما ظهر بشكل جلي في كل من العراق ومصر، وبالتحديد في نموذج اصطدام فيصل الاول مع الفقهاء الشيعة، ونفيهم ثم عودتهم، ونموذج تحالف الضباط الأحرار في مصر مع الاخوان ثم فك التحالف الذي اتخذ اشكالاً عنيفة في بعض مظاهره وتجلياته عند الطرفين.

 

لم تفلح هذه النماذج الثلاثة في التاسيس لعلاقة مستقرة، ومفهومة الخطاب بين الاثنين، وقد أدت الى استنزاف مشروع الدولة الحديث، وإنهاكه سياسيا ًواقتصادياً، من خلال الصراع المحتدم والعنيف بين الدين والدولة. فآلت نتيجة الصراع بين ايران العلمانية وقم ومراجع الدين الى اندلاع الثورة وقيام نظام الجمهورية الاسلامية على أنقاض نظام العلمانية البهلوية. وفي تركيا ظهر العدالة والتنمية الاسلامي، وفي تونس ظهر النهضة الاسلامي. وكما كانت هذه العلمانيات ترسي معالم الدولة القانونية، وتتحرش بالمظاهر الاسلامية، جاءت الأنظمة الاسلامية لتقوم بإرساء معالمها الاسلامية، والتحرش من جهتها كذلك بالمظاهر العلمانية والمدنية في الدولة.

 

اما في العراق ومصر، فقد ظلت العلاقة محكومة بالمتغير السياسي، وطبيعة السلطة والنظام وقواعد الصراع اوالتداول التي تحكمها.

 

ففي مصر شكل قيام ثورة 25 يناير التي أطاحت بالنظام، والثورة المضادة التي أطاحت بالرئيس الاخواني المنتخب محمد مرسي، شكلاً من أشكال استمرار الصراع بين الديني والعلماني الذي يفتقر الى أسس فلسفية وسياسية واضحة.

 

اما في العراق، فقد استعاد الاعتدال الديني العراقي نفسه على يد فقهاء النجف والمراجع الشيعة، الذين رفضوا نظام ولاية الفقيه المطلقة لصالح نظرية فقهيه اخرى سبق وان أبدعها الشيخ النائيني في كتابه المهم (تنبيه الأمة ونزيه الملة) القائمة على تفويض الحكومة العادلة في إدارة شؤون الأمة والدولة.

 

سبق ذلك بثمانين سنة اختيار العراق الملكي الحديث  نموذج العلمانية المحايدة التي تبنتها الدول الغربية البروتستاتنية على الأغلب مثل بريطانيا وألمانيا وهولندا والولايات المتحدة الامريكية.

 

وفي حين لم يكن للعلمانية اليعقوبية موطئ قدم في العراق، بسبب عدم خضوع العراق للاحتلال الفرنسي المباشر اوغير المباشر، وبالتالي بقاء العراق خارج المجال الجيوبولتيكي للفرانكفونية، فان التحدي الأكبر كان متمثلاً بالمشروع العلماني البلشفي القائم على إقصاء الدين والذي كانت تمثله الحركة الشيوعية العراقية.

 

لقد اتفقت عدة أنظمة متعاقبة – الملكية والقومية العربية والبعثية – والتحق بهم التيار الاسلامي من موقع المعارضة وليس من موقع السلطة، على عدم السماح لهذا التيار بالصعود الى السلطة وإدارة الدولة إدارة (علمانية اصولية) ستقود لاحقاً الى تفجر صراع مرير مع الدين من جهة، ومع المنظومة السياسية التي كانت الدولة العراقية تنتمي اليها محلياً واقليمياً ودولياً، من جهة اخرى.

 

ثمة نوعان من العلمانية سيقدر للعراق ان يتمسك بأحدهما وينفي الاخر.

 

كما ثمة نوعين من الحركات الاسلامية، سيقدر للعراق ان يتمسك باكثرهما عقلانية، وحداثة، ومعاصرة، وقدرة على استيعاب متغيرات المجتمع والسياسة والاقتصاد.

 

لقد صبغت الثورة الفرنسية، بعلميتها وعلمانيتها، وعنفها الثوري، الحداثة التي مثلتها بصبغة الاصولية العلمانية، وهذه بحد ذاتها تصير العلمانية فلسفة في العقيدة والسلوك الشخصي، وليس نظرة محايدة للدولة، تترك للدين مجاله وللدولة مجالها الاخر. انها العلمانية التي تقصي الدين عن مجال الدولة وتحاصره في مجال المجتمع، والتي ابتدأت بمحاصرة الكنيسة ورجال الدين وانتهت بحربها ضد مظاهر عامة مثل الحجاب والبكيني والتدخل الفض في التعليم.

 

لقد افضت العلمانيات الاصولية الى انتاج نقائضها، كما كانت هي في بدايتها تخوض الصراع مع ما عدته نقيضها الحتمي الاول المتمثل بالدِّين.

 

يترسخ الاعتقاد الان، ان الاعتدال الذي تمثله المدرسة الفقهية النجفية،  مضافاً الى المحافظة على الاعتدال العلماني العراقي الذي انتهجته الدولة العراقية الحديثة منذ تأسيسها، يمثلان عاملين مساعدين على تخطي مرحلة الصراع على السلطة والاتجاه لتحديد هوية الدولة.

 

تتجه الدولة العراقية الى نبذ الأصوليات، والتمسك الاستراتيجي البعيد المدى بالاعتدال والوسطية والحداثة المنتجة.

 

إقرأ أيضا