بات الوضع في البصرة مقلقاً على نحو يتطلب تدخلا سريعا ومباشرا من السلطات الامنية الاتحادية والمحلية، فالمدينة تحوّلت الى ساحة مكشوفة لتنامي قوة السلاح، وسقوط هيبة الدولة، مع تصاعد نفوذ العشائر بُعيد أحداث احتلال الموصل من قبل تنظيم “داعش”، بفعل الفراغ الذي تركته قوات الأمن المحترفة وقطعات الجيش العراقي التي غادرت لتقديم الاسناد في ساحات الصراع، على الرغم من اهمية المدينة الاستراتيجية، وحساسية العلاقة بين العشائر المتناحرة التي تستوطن شمالها.
وباتت الاشتباكات المروّعة تزحف من اقصى شمال المحافظة الغنية بالنفط، الى مواقع قريبة من مركزها، ما يهدد استقرارها، ويزعزع السلم الاجتماعي فيها، فما ان تهدأ جبهة حتى تفتح اخرى.
وفي الشهور الاربعة الماضية، كانت الاشتباكات تنشب على نحو محدود في قضاء القرنة (اقصى شمال البصرة)، بشكل شبه يومي بين عشائر متناحرة فيما بينها، بسبب ثارات ومشاكل اجتماعية، في ظل غياب القانون، وسيادة الاعراف القبلية، وتوفر السلاح على نحو معلن. وغالباً ما تتسبب تلك المعارك المستمرة بسقوط قتلى وجرحى واضرار مادية، ما يزيد من حدة الاحتقان.
لكن التطور الجديد، وانتقل تلك الحروب القبلية الى حزام مركز البصرة الشمالي، والمدخل اليها عبر طريق العمارة – البصرة، بمناطق الماجدية والهارثة والشلهة، وكرمة علي.
وفي خطوة للسيطرة على الوضع المنفلت في شمال البصرة الغني بالنفط، اعلن محافظ البصرة ماجد النصراوي (كتلة المواطن – المجلس الاعلى) في (27 ايلول الماضي) تشكيل ما اسماه بـ”القوة الامنية الضاربة لحل النزاعات العشائرية”، مبيناً في مؤتمر صحفي عقده في حينها ان “القوة تتألف من 200 منتسب مجهزة بالاسلحة الاجهزة الخفيفة والمتوسطة لمواجهة العنف وبسط الامن والحد من النزاعات العشائرية، وتفعيل مذكرات القاء القبض بحق المتهمين والمطلوبين في شمال البصرة”.
لكن “القوة الضاربة” سقطت بأول اختبار لفض نزاع مسلح نشب بين عشيرتي البوشبيب والكعابة في حي الجمعة، وسط قضاء القرنة، حيث لم تتدخل تلك القوة، وظلت بحسب مصدر محلي تحدثت اليه “العالم الجديد” في مقرها، لحين فض القتال بتدخل من قبل مشايخ عشائريين، لينتشر بعدها عناصر القوة في الحي و”كأنها هي من فرضت الامن فيه”.
وظلت الامور مُعلّقة، ما بين تمادي العشائر المسلحة في نقل خلافاتها من الحل السلمي الى المسلح، وما بين عجز الحكومة المحلية والاجهزة الامنية عن ايجاد حل للمشكلة المزمنة، فتفاقمت الخلافات، حتى اندلعت اشتباكات متوالية على امتداد الشمال البصري، كان آخرها الاشتباك العنيف الذي دار بمنطقة الهارثة.
استدعت تطورات الامور الى تشكيل لجنة “تصفير النزاعات العشائرية المسلحة”، برئاسة المحافظ ماجد النصراوي وعضوية عدد من قادة الأمنيين، بضمنهم قائد عمليات البصرة الجديد الجنرال سمير عبد الكريم، بوساطة من رجل الدين البارز وعضو مجلس النواب السابق جلال الدين الصغير، ومستشار رئاسة الجمهورية لشؤون العشائر داغر الموسوي، افضت الى عقد جلسة موسعة في قضاء القرنة، بمضيف الشيخ راضي البيضاني، اسفر عنها توقيع وثيقة شرف بعدم استخدام السلاح في النزاعات العشائرية، او اطلاق العيارات النارية بشكل عشوائي، والتعاون مع الاجهزة الامنية بالابلاغ عمن يخرق الاتفاق، من اجل فرض هيبة القانون بحزم.
حاول النصراوي، ومن خلفه المجلس الاعلى الاسلامي العراقي، عبر الشيخ الصغير التأثير على العشائر عبر خطاب ديني، لاحترم القانون.
لكن بعد ساعات فقط انهارت الوساطة والوثيقة، واشتبكت عشيرتا المياح والكرامشة، في الماجدية والهارثة والشلهة، بقتال عنيف استخدمت فيها الاسلحة الساندة وصواريخ الهاون، ادى الى قطع الطريق الدولي واحراق عدد من السيارات والشاحنات، واصابة عدد من افراد العشيرتين.
وكانت الأمانة العامة لمجلس الوزراء اعلنت في (13 كانون الثاني 2015) عن تكليف مجلس الأمن الوطني بمتابعة القضايا الأمنية والنزاعات الاجتماعية والعشائرية في محافظة البصرة بشكل عاجل، بينما شدد وزير الداخلية خلال زيارته الى البصرة في (17 تشرين الثاني 2014)، على مكافحة الظاهرة وعدم التساهل مع الضباط والمنتسبين المقصرين والمتهاونين في تأدية واجباتهم.
معركة ليل الخميس – الجمعة الضارية، نشبت بسبب ثأر عشائري لمقتل شخصين من عشيرة الكرامشة على يد شخص من عشيرة المياح، ما استدعى هجوماً شرساً من قبل “الكرامشة” بصواريخ القاذفات والهاون، من ثم التقدم بالاسلحة الخفيفة والمتوسطة، قبل اقتحام بعض الاحياء وفرض حصار على منطقة عشيرة المياح، واسفر الاشتباكات عن مقتل طفل وجرح عدة اشخاص من المياحيين.
العشيرة المغلوبة، ناشدت الحكومة المحلية والاجهزة الامنية، بالتدخل وفك الحصار، ووقف القصف، فارسلت تعزيزات عسكرية الى المنطقة، على رأسها قوات التدخل السريع (سوات) التي انسحبت مجابهتها برد مسلح عنيف، فقطع الطريق السريع امام السيارات ريثما ينهي الكرامشة هجومهم.
وفي صبيحة اليوم التالي، الجمعة (30 كانون الثاني الجاري) اندلعت اشتباكات عنيفة بين عشيرة الحمادنة وعشيرة اخرى، بالقرب من موقع جامعة البصرة للكليات العلمية، بمنطقة ابو صخير، ما تسبب بمقتل شخص وجرح آخر، ووفقاً للمصادر ان القوات الامنية ظلت على الحياد، لشدة المعركة، التي اوقفت بعد وساطات عشائرية.
وبحسب مراقبين في المدينة، فان البصرة ستشهد جولة جديدة من القتال العشائري، ولن يتم القضاء على الصراعات الدموية، لجهة ان العشائر باتت اقوى سلطة ونفوذ وسلاح من الاجهزة الامنية، فيما تسري معلومة ان الضباط الامنيين يخشون التدخل لفض الاشتباكات، بسبب ملاحقتهم عشائريا فيما بعد.