صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

القضية الكوردية ودورها في السياسة العراقية

  وعدنا في حلقة سابقة بتخصيص حلقة خاصة عن القضية الكردية وتاثيرها على الوضع السياسي…

 

وعدنا في حلقة سابقة بتخصيص حلقة خاصة عن القضية الكردية وتاثيرها على الوضع السياسي في العراق وهذا ما نقوم به الان  مع ملاحظة اننا لم نحاول التوسع في الموضوع كي لا يخرج عن اطار مقالة وليس بحثا خاصا عن القضية الكوردية  بتفاصيلها وهو ما كان سيحتاج بحثا مطولا وليس مقالة املين ان الاختصار لم يخل باظهار قضية الشعب الكوردي اولا كقضية شعب له حقوق ومطالب مشروعة و ثانيا تاثيرها الدائم على الحياة السياسية العراقية.

 

تعتبر القضية الكردية اهم تحدي واجه الدولة العراقية في وجودها منذ تاسيسها في العام 1921,اذ لم تتم استشارة الكورد في ان يكونوا ضمن هذه الدولة ولا في شكل مشاركتهم بها في وقت كانوا يرون ان الاوان حان لتحقيق طموحاتهم القومية ,ولم تكن الدولة الجديدة قادرة على اجتراح حل لها بسبب تركيبتها وخلفيات نخبها الحاكمة الفكرية رغم ان النظام الملكي حاول ادماج الكورد في الدولة الجديدة بطريقته الخاصة حين منح مناصب رفيعة الى شخصيات كوردية اصبحت جزءا من النظام اكثر من تمثيلها لمصالح الشعب الكوردي,فكان هناك رئيس وزراء ووزراء وحتى رئيس اركان للجيش من الكورد ..وبعد فترة من تاسيس الدولة وتبلور المطالب الكوردية على شكل تمرد وعصيان مسلح احيانا كان الرد قصف بالطائرات وحملات عسكرية وكانت ذروة القضية الكوردية في اعلان جمهورة مهاباد ثم سقوطها وهروب وزير دفاعها مصطفى البارزاني الى الاتحاد السوفياتي اواسط اربعينيات القرن الماضي..غير ان القصة الحقيقية للقضية الكردية في العراق تبدا اواخر العام 1958 حين اصدر الزعيم عبد الكريم قاسم عفوا عن الملا مصطفى البارزاني تحت ضغط الاجواء السياسية اليسارية السائدة انذاك وفي ظل الصراع بين قاسم والاتجاه القومي العربي المناهض لمنح الاكراد حقوقهم وتحالفه مع الشيوعيين المتبنين التاريخيين لقضية الشعب الكوردي في العراق,وفي الفترة التي قضاها البارزاني في بغداد حظي برعاية خاصة من حكومة 14تموز وفي ظل سيطرة شبه تامة على الاوضاع من قبل حلفاء قاسم الشيوعيين,غير ان الامور بدات بالتغير بعد لقاءات الزعيم الكوردي بالزعيم قاسم لعدم توافق الشخصيتين واختلاف توقعاتهما من الاخر,فقد كان البارزاني حين عودته الى بغداد اسطورة تمشي على قدمين ليس لدى الكورد فحسب ولكن لدى كثير من العرب المتعاطفين مع القضية الكوردية وذلك لما احاط اسم البارزاني من اخبار خلال وبعد جمهورية مهاباد,وقصة هروبه الطويلة للاتحاد السوفياتي وبالمقابل فان شخصية الزعيم قاسم الخجولة تمخضت بعد التاييد الواسع الذي حظيت به ثورة 14 تموز 1958 وخصوصا بعد ظهور الصراع مع القوميين وازاحته لعبد السلام عارف عن نرجسية واحساس شديد بالعظمة عبر عنه بتصريحات  وممارسات عديدة  وهكذا فان المزاج الشخصي للزعيمين كان الاطار الذي ظهر فيه اختلاف رؤاهما السياسية غير ان الاهم في رايي ان البارزاني اكتشف ان قاسم لايملك اي برنامج لحل القضية الكردية بل ان قاسم اعتقد انه قدم الكثير حين ضمن الدستور المؤقت فقرة تنص ان العرب والكرد شركاء في الوطن اضافه لاصداره العفو عن البارزاني رغم معارضة الضباط القوميين وعلى راسهم عارف,بل انه كان يتوقع من البارزاني مايشير للعرفان بالجميل وهكذا فقد انسحب البارزاني من بغداد الى موطنه في كردستان العراق وبدات بعض المناوشات الكلامية التي انتهت باعلان البارزاني الثورة المسلحة في ايلول 1961.

 

ومن اجل فهم افضل لظروف اعلان البارزاني الثورة او العصيان حسب الرواية الحكومية يجب ان نذكر ان هذا الاعلان جاء بعد ان ادار قاسم ظهره للشيوعين وبدا بملاحقتهم امنيا بعد انتهاء شهر العسل الذي امتد من اواخر 1958 الى تموز 1959 حيث يلحظ عدد من الباحين تغيرا في تفكير عبد الكريم قاسم واولوياته وخياراته تمثل في مزيد من الاعتماد على المؤسسة العسكرية والامنية التي كانت لاتزال تحمل نفس عقيدتها في العهد الملكي وقد لعب العسكريون دورا هاما في اقناع قاسم بالخيار العسكري لانهاء العصيان الكوردي المسلح,ورغم ان قاسم لم يكن عنصريا باي شكل الا ان انعدام المنهج واعتماده على مؤسسات الحكم السابق في انجاز مهمات سياسية واجتماعية تتعارض مع تركيبة وعقيدة ومصالح هذه المؤسسات جعله يبتعد كثيرا عن المرافيء الفكرية الي ابحر منها وفي هذا الصدد يقول الرئيس الحالي لاقليم كردستان العراق ونجل مصطفى البارزاني وهو يشيد بالزعيم قاسم ان الامور لم يكن يجب ان تمضي بهذا الشكل وان الجميع اخطا بحق الزعيم وهو مافهمته تبرئة لقاسم واشارة لخطا والده في ايصال العلاقه مع قاسم الى العمل المسلح وقد جادل كثير من مؤيدي قاسم في ان توقيت اعلان البارزاني للعمل المسلح كان مشبوها ويدل على وجود ايدي خارجية,ففي العام 1961 الذي اعلن الباراني ثورته كان قاسم يخوض معارك مصيرية على اكثر من جبهة فقد اصدر القانون رقم 80 الذي فتح معركة خطيرة مع شركات النفط النافذه ودولها وهو مايعتقد على نطاق واسع قد ادى في النهاية لانهاء حكمه كما ان قاسم في ذات العام قد فتح معركة اخرى باعلانه عن عراقية الكويت ماجعله يخوض معركه سياسية واسعه كادت ان تصبح عسكرية مع الدول الغربية والعربية.تشير دراسات كثيرة ان قرار اسقاط قاسم اتخذ بالذات في العام 1961 بعد ان تحرش بشكل مباشر بالمصالح الغربية مرة بسنه القانون رقم 80 الذي حرر 99.5% من الاراضي العراقية من سيطرة شركات النفط واعلانه ان الكويت عراقية بما يترتب على ذلك من نتائج خطيرة لو تم تنفيذه عمليا وهو مايمكن فهمه من نتائج ضم الكويت للعراق 1990 الكارثية وبالنظرة الفاحصة على عقلية وتفكير الزعيم الكردي فلا اجد ما يمنعه مبدئيا وسياسيا واخلاقيا من التحرك ضد قاسم بتوقيت متفق عليه مع قوى خارجية فهو تحدث اكثر من مرة عن امكانية التحالف مع الشيطان في سبيل مصلحة قضيته سيما وانه رجل عشائري ولم ياتي للنضال السياسي من المدارس الثورية المعروفه ولعل اتفاقه مع البعثيين والقوميين الذين كانوا يستعدون لانقلاب 8 شباط 1963 ومشاركته في حكومتهم دليل واضح على ميكيافيلية تناسب سلوك شيخ العشيرة,سيما وهو يعرف موقف هؤلاء المبداي الحقيقي من حقوق الكورد.

 

لقد كانت مطالب الكورد دائما مطالب ممكنة التحقيق لكنها اصطدمت دائما بقوى في بغداد لم تستوعب الحقوق القومية لشعب له هويته المختلفة وطموحاته القومية المشروعة,ونحن هنا نعتبر نقطة الانطلاق لاي بحث او محاولة حل يجب ان تكون من الايمان بحق الشعب الكوردي في اختيار شكل العلاقه مع بغداد وضمن ذلك فض هذه العلاقة ,ولو كانلبغداد في اي وقت قيادة تتمتع برؤية بعيدة المدى لكانت استجابت لمطالب الكورد ان لم يكن ايمانا بالمبادىء فلمصلحة الكيان العراقي الذي يتعرض امنه بل ووجوده الى الخطر بسبب العلاقة المختلة بين بغداد واربيل, وبعد فقدان بغداد المبادرة اثر سلسلة من السياسات العنصرية والحمقاء كان اخرها سياسات المالكي التي ادت الى علاقة بين الاقليم وتركيا على حساب بغداد لم يكن لها ان تكون لولا غباءه السياسي الذي جعل من اقليم كوردستان تهديدا ستراتيجيا للعراق في حين انها كان يمكن ان تكون عمقا امينا لها. اننا نعلم ان الوقت متاخر لحلول للعلاقه بين بغداد واربيل لكن الوقت ليس متاخرا لتقليل اخطار الاخطاء ورؤية مستقبل من المصالح المشتركة بين الطرفين خصوصا في ظل اجواء ليس فقط انعدام الثقة بين القيادتين ولكن تصاعد مشاعر الكراهية بين شعب الاقليم  والشعب في وسط وجنوب العراق بشكل غير مسبوق وبما لايتفق مع مصالحهما,ففي المحافظات العربية الشيعية هناك تحميل مباشر لكثير من مشاكل العراق الى القيادة الكردية وخصوصا مسعود البارزاني رئيس الاقليم  رغم اننا يجب ان نعترف ان جزءا من الحملة ضد البارزاني هي ايضا ضد الكورد كشعب اي تخفي نوازع عنصرية,وبالمقابل تتصاعد نزعة الكراهية العنصرية لدى الشباب في كردستان بشكل خاص ضد الشيعة ,وهذه المرة على اسس طائفية وهو ما يهدد الوضع السياسي في الاقليم فمع تراجع تهديد بغداد للاقليم يبدا حراك سياسي باسئلة مؤجلة عن الفساد المستشري والتجاوز المستمر على الديمقراطية، وهو ما لاتملك له قيادة الاقليم اجوبة فهي متورطة بعمق في الفساد كما ان التجاوز على الديمقراطية امر منهجي لا تستطيع الحكم بدونه وكل ذلك سيفتح المجال للاسلاميين الكورد للنشاط والتمدد وهي امور توضح حدود القوة للبارزاني التي بفهمها يمكن لبغداد فعل الكثير.

 

ان تصاعد المذهبية في كوردستان امر جديد وسوف تكون له تداعيات سلبية على كل ستراتيجيات الاقليم التي بنيت على اساس قومي.ان على بغداد ان تفهم ان السياسة ليست مجرد قرارات تستند على شرعيات او حقائق جغرافية او ديموغرافية او سياسية بل انها عمل وحسابات وصبر ومرونة في تغيير المواقف حسب الظروف من اجل احداث تغيير في الاوضاع التي قد تبدو ثابتة والوضع في كردستان ليس استثناءا سيما وانه  يشهد صراعا سياسيا حادا في العمق لاسباب عديدة اهمها الصراع على السلطة حيث تسخدم جميع الاطراف الثوابت الكوردية من اجل تحقيق مصالح حزبية او شخصية حتى,وفي هذا الاطار تاتي الدعوات المستمرة من البارزاني واخرين في اربيل حول الانفصال ,اذ رغم ان حلم الغالبية الساحقة من الكورد ان يعيشوا في ظل دولة كوردية مستقلة لكن ذلك يستخدم ورقة سياسية ضد الخصوم الكورد اولا ولاجبار بغداد على اعطاء تنازلات.

 

ان مسؤولية بغداد ليست فقط في اصلاح العلاقة مع اربيل واعادة التوازن المفقود ولكن في اداء افضل من بغداد في المجال السياسي والخدمات وكفاءة في استخدام موارد الدولة يجعلها مرجعا للعراقيين جميعا وهنا لنتصور لو ان حقبة المالكي التي امتدت 8 سنوات هامة جدا حظي بها بدعم دولي ومحلي كبير مع وضع مالي جيد جدا تميزت باداء سياسي ومهني ونزاهة وكفاءة ,كيف كانت سيكون انعكاسها على الشعب الكوردي الذي يشكو من الفساد وانعدام العدالة في توزيع الثروة والمحسوبية في المناصب؟ كانت بغداد لتقدم نموذجا يجعلها ملجأً لكل العراقيين ومنهم الكورد, لكن وقد حصل العكس فان المواطن الكوردي مضطر لتغيير اولوياته والسكوت على الاوضاع السياسية والاقتصادية السيئة في الاقليم مقابل تطمينه ان الاوضاع المضطربة السيئه في بغداد لن تصل اليه، سيما وبغداد لا تبدو مهتمة باي شيء يتعلق بكوردستان العراق, ورغم ان السبب المعلن لذلك هو ان قيادة الاقليم تتصرف وكانها دولة مستقله ولا تعبر عن احترامها لقرارات بغداد اذ رغم ان ذلك صحيح لكنه لا يعفي بغداد من مسؤولياتها وضرورة ممارسة دورها المطلوب في الصراع السياسي  لكسب الجمهور الكوردي وغير الكوردي .

 

ان الحكمة السياسية تقتضي ان تعلن بغداد انها مع خيارات الشعب الكوردي المعبر عنها وفق الاليات الديمقراطية وانها جاهزة للتفاهم والتفاوض على كل شئ,وعمليا فان شكل العلاقة الحالي بين بغداد واربيل لن يستمر ومن ثم يجب البدء بمفاوضات هادئه مع القوى السياسية الكوردية من اجل تاسيس البنية التحتية لاي وضع مختلف لاقليم كردستان ضمن الدولة العراقية او خارجها مثل موضوع المناطق المتنازع عليها وغير ذلك من امور شائكة تمثل امكانات لصراع دموي مسلح ..ان على  القيادة السياسية في بغداد ان تتصرف كدولة ترعى مصالح مواطنيها ومنفتحة على كل الخيارات وقادرة على مواجهة اي تطور,فالعراق دولة وسيبقى دولة بكردستان او بدونها ومن المهم في اي اجراءات ومفاوضات ان تتبنى بغداد حماية المسيحيين الذين يتعرضون لمسخ هويتهم خصوصا في سهل نينوى وكذلك حماية الهوية التركمانية وعدم السماح لمحاولات اقتلاعها,وحماية الهوية الازيدية لكل من يرى ان الازيدية هوية خاصة وليست ملحقا ديني بالقومية الكوردية, اضافة الى ضرورة اصلاح العلاقة مع العرب السنة خاصة في الموصل وكركوك التي تضررت بسبب ممارسات طائفية مغموسة بالفساد لايقاف الخرق الستراتيجي الذي احدثته هزيمة الموصل ولجوء الكثير من القيادا دت السنية الموصلية الى تبني الاولويات الكوردية في موضوع تحرير الموصل. ان الدفاع عن الاقليات في العراق بشكل عام وفي المناطق المتنازع عليها بشكل خاص واجب على الحكومة العراقية خصوصا في ظل سياسات الامر الواقع التي تتبعها قيادة الاقليم وهي مهمة ستحظى بدعم من اوساط الراي العام العالمي وفي الغرب خاصة,وهو امر لاتلتفت اليه بغداد مما يدفع هذه الاقليات للبحث عن حلول خارج اطار السيادة العراقية وهو ما قد يشكل اختراقا جديدا لامن العراق.

 

ملاحظة: للامانة التاريخية فان اعلان البارزاني للتمرد المسلح كان في ايلول 1961 في حين ان القانون 80 صدر في كانون الاول 1961, فلا علاقة سببية مباشرة بين الحدثين لكن المفاوضات مع شركات النفط ومسار الاحداث كان يؤشر لمعركة خطيرة يخوضها العراق.

 

إقرأ أيضا