في العادة يجب أن تضطلع الدولة بمهمة “إنتاج الوعي” من خلال القيام بتنفيذ مهامها الدستورية والقانونية ورسم الاستراتيجيات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تؤدي بدورها إلى تحديث النظام الصحي والتعليمي والضمان الاجتماعي والعمل على ارساء دعائم القانون وتطبيقه بعدالة، وهذا لا يتم إلا من خلال اضطلاع كل من السلطتين التشريعية والتنفيذية بواجباتها الرئيسة، وهي تنفيذ التشريعات والقوانين وتفعيل الرقابة على تنفيذ تلك القوانين، ما يؤمن تحقيق مايعرف بـ”قصد المشرع”، فضلا عن وجود سلطة قضائية رصينة تجسد مفهوم الفصل بين السلطات.
من أهم وأبرز المنطلقات البنيوية لمثل تلك الأنواع من الدول المتطورة هو بناء نظام اقتصادي يضمن مكافحة الطبقية وفق مفهوم “الاستراتيجيات المتأنية”، لكن في المقابل ألا ينبغي على المجتمع أن ينتج دولة على هذا الغرار؟ إذن كيف من الممكن انتاج الدولة التي تضطلع فعليا بانتاج الوعي؟ ما الأدوات الواجب توافرها في انتاج دولة على هذا الغرار؟
ثمة علاقة مضطردة تنشأ في العادة بين المنظومة القيمية المتحكمة بالوعي الجمعي والظروف السياسية والجنائية والاقتصادية المحيطة بها، بمعنى أن المنظومة القيمية المتأثرة على نحو مباشر بهزات الحروب والظلم وقسوة النزوح الجماعي وغياب أطر العدالة لا تشبه بالعادة تلك القيم المستقرة والنامية والخاضعة لجرعات وممكنات التنشئة السياسية والاجتماعية.
في الحالة الأولى قد تنحسر مراكز القوى الاجتماعية القادرة على صياغة الرأي العام مثلا إلى حدودها الدنيا، وفي الثانية تتسع إلى مديات غير محدودة “كوسائل الاعلام، وجماعات الضغط، وشيوخ الصحافة والأدب، ومنظمات المجتمع المدني،…الخ) بالتالي يشكل الرأي العام فيها ضاغطا مباشرا على صناعة القرار الوطني لا يمكن التغاضي عنه او تجاوزه، ويتسم في الغالب بالموضوعية والحدة في التشخيص والرقابة المشددة.
إذن فإن الرأي العام وصياغته على نحو مؤثر هو واحد من عشرات الأسس الرصينة التي تسهم في انتاج الوعي المجتمعي القادر على انتاج دولة عصرية.
في العراق تنحسر ممكنات صياغة الرأي العام لحدودها الدنيا، حيث تقتصر على مؤثرين رئيسين هما المؤسسة الدينية التي تنأى بنفسها في الغالب عن التحكم في الأمور الجنائية والسياسية لخلاف فقهي متجذر يتعلق بأحقية الفقيه في الولاية المطلقة او الجزئية، والمنظومة القبلية والعشائرية التي تتسم بالانتهازية وعدم القدرة على القيادة المجتمعية المؤدية لصياغة الرأي العام المصوب نحو السداد، وتخضع في العادة الى منطلقات قلقة غير مستقرة.
أما المؤثرات الاعلامية والتعدد الواسع لمصادر المعلومات فلم تثبت قدرتها على صياغة رأي عام واعٍ ومؤثر، ومن الواضح أنه اقتصر على استثارة العاطفة السياسية او القبلية او الطائفية، ولم يبلغ القدرة على طرح المعالجات الموضوعية لأغلب المشكلات الاجتماعية.
مراكز القوى الاجتماعية في العراق، وعلى الرغم من التحرك الدؤوب لبعضها في الدفاع عن الحريات والحقوق المتاحة فإن جهدها يبدو وكأنه ترف بالنسبة للغالب الأعم من شرائح المجتمع وما زالت تلك الشرائح تعتبر نفسها غير معنية بمثل تلك الجهود.
حالة الاحباط الوطني والنكوص المجتمعي يجب أن تواجه بمعالجات تنسجم حد التماهي مع حالة عدم الاكتراث التي تسيطر على العقل الجمعي للمجتمع العراقي، لأن الحلم يتمثل بالتغيير ومكافحة الفساد والشروع باستراتيجيات التنمية الاقتصادية وبناء نظام سياسي رصين يستند بالضرورة إلى خيار المجتمع بافراز دولة قادرة على انتاج الوعي، أما دور مراكز القوى الاجتماعية المدنية البديلة عن تلك المؤثرات التقليدية فيجب أن يركز في السعي باتجاه تمكين المجتمع ورفع قدرته على التشخيص والرقابة معا، من خلال إيجاد آليات وخطط كفيلة في أن تسترعي عناية المجتمع المنوم مغناطيسيا بفعل الحروب والنكبات الوطنية الممتدة عبر عقود خلت.