لم يكن من الصعب النظر إلى الحضارة الحديثة على اعتبارها مرضا، إذ كان يوجد في حياة المدينة الشيء الكثير من المظاهر البراقة، مما تصطدم به بعض الأمزجة التي تميل إلى البساطة فيما بين الفنانين، وكان لذلك صدى أيضا في الناحية السياسية.
التي كانت بدورها تسير في اتجاه محاذ لاتجاه بساطه الفن.إذ كان يطلق على هذا الاتجاه اصطلاح “العودة إلى الأرض”، وليس من شك في أن هذه الحالة إجمالا تعتبر استجابة لأراء روسو الذي كان ينادي بالعودة إلى الطبيعة في القرن الثامن عشر.ولقد كان الدليل الذي يستند إليه شباب الفنانين في هذا السبيل يتضمن هذا الرأي ( إذا كانت الحياة الحديثة تعتبر مرضا، فان الفن الذي يعمل بمقتضاها يكون فنا مريضا كذلك)، ولكننا نستطيع أن نعيد للفن صحته، إلا أن ذلك يتطلب قيام الفن على أساس بداية جديدة تستند إلى فنون الفطرة للأطفال والبدائيين.وهكذا بدأ رد الفعل ضد التعقيد القائم في تصوير التأثيرية الحديثة وبناء على ذلك قامت حركة تقدمية متأثرة بالمثال الذي انتحاه جوجان* في حياته وفنه، ومنذ ذلك الحين كان قد ولد مذهب جديد قامت به جماعة أطلق عليها فيما بعد اصطلاح “جماعة لفوف”، ومعناه الوحوش الضارية.
وان مذهب هذه الحركة الوحشية يعتبر رد فعل انفعالي متطرف ضد الميول الفكرية التي تسود فنا يقوم في الأداء على أسس علمية كما هو الحال في الحركة التأثيرية. وهكذا كان ما عمدت إليه هذه الجماعة من اتخاذ مذهب يكون فيه الفن أكثر بساطة وأقل تعقيدا، من حيث فطرة البداءة وبراءة التعبير، وكانت تلك الخطوة التي بدأها جوجان مثالا يحتذى، إذ جعلت كبار الفنانين واحدا بعد الآخر ينتحي الأسلوب البدائي، وظهرت في لوحاتهم التي عرضت في باريس تلك التخطيطات التي تحاكي رسوم الأطفال. وكان هذا التصوير لا ينتمي إطلاقا إلى أي نوع جديد لتصوير الطبيعة بل كانت هذه الرسوم تقوم بالأحرى على فنون البدائيين وزنوج أواسط إفريقيا. وان وحدة القطع الخشن في الفن الزنجي قد أثارت العقول القلقة لاؤلئك الفنانين الذين أصبحوا متخمين بالفن الذي بلغ ذروته بكمال المطابقة، وان الشوق نحو البساطة والرغبة في تأمين أقصى حد ممكن من التعبير بأقل ما يمكن من وسائل الأداء. كانت من الفضائل الأساسية للمذهب الوحشي والتي نشهد أعلى مستوى لها في إنتاج هنري ماتيس** الذي يعتبر الرائد الذي استطاع أن يترجم اتجاه هذه المدرسة الجديدة إلى النطاق الأدائي.إن جماعة الفنانين الوحشيين قد وجدوا في ماتيس المنقذ والمخلص والمرشد نحو عالم تسوده البساطة والبراءة. ولذا كان المذهب الوحشي يمثل عودة إلى الفطرة بتلقائية التعبير وبدائية الأسلوب وحرارة الألوان المعبرة عن جذوة الحماس ووحشية الانفعال، والمذهب الوحشي بعد ذلك يستمد طابعة ألزخرفي الذي يسود الأوضاع الفنية في الأداء، من الطريقة الزخرفية التي سلكها من قبل جوجان.
النشأة:
تعتبر نشأة المذهب الوحشي قصيرة حيث كانت بدايته في عام 1905 وبلغ أقصى امتداد لنموه عام 1907. ولعل من الأجدى أن نذهب باختصار عبر تتابع التبادل الفني والاتصالات التي كانت قائمة بين الفنانين، تلك التي ساعدت على الابتكار وبلورت هذا الاتجاه في الشخصية التي تزعمت هذا المذهب.والتي تتمثل في الفنان هنري ماتيس الذي يعتبر أكبر أعضاء هذا المذهب سنا وأعظمهم خبرة وتجربة، ذلك لأنة هو الرائد لهذه الحركة الفنية دون منازع.
ولقد كانت الجماعة الرئيسية لهذا المذهب تتكون من جماعات وعناصر يرجع منبتها إلى أصول مختلفة فقد التحق بها الفنان الهولندي المستقل فان كورنيلوس وسار تحت لواء ماتيس معتمدا على مبادئه الجديدة خلال سني هذا الصراع المجيد كما انضم إلية كذلك جماعة فناني جوستاف مورو.وكان العامل الهام في تكوين هيئة المدرسة الوحشية، أن هنري ماتيس كان قد التحق بالمدرسة الأهلية للفنون الجميلة عام 1892 كطالب لدى الأستاذ جوستاف مورو. ولقد كان لحماس جوستاف مورو وتعاليمه الحرة ما أفسح المجال لهذه الامزجه القوية التي آخت بينها الدراسة، أن تتوحد في هيئة لفوف وأن تنمو وتسير قدما إلى الإمام.
وكان مورو يقول لهم: اني لكم بمثابة القنطرة لمن أراد العبور.وعندما مات جوستاف مورو تفرقت تلاميذه، إلا أن ماتيس الذي كان له من قبل سلطة اعتبارية بالنسبة لسنه على زملائه، عمل على جمع شمل هذه الجماعة.
وكان ماتيس قد قضى نحوا من عام في كل من تولوز و كورسيكا، حيث أنتج هنالك بحرارة المتحمس مع الانجاز السريع بعض اللوحات بأسلوب يقوم على استخدام الألوان النقية بطريقة التنقيط وكان ذلك عام 1899 حيث رجع إلى باريس ومعه هذه الكروكيات السريعة وقضى زمنا بعد ذلك في الأستوديو الذي اتخذه بسان ميشيل.إذ كان بصحبته هنالك أحد أصدقائه المقربين وكان ذلك في عام 1907 وهذا هو كل ما يمكن أن يقال عن المرحلة القصيرة التي تدعم فيها طراز الفن الوحشي.
المبادئ:
يقوم المذهب الوحشي على الدوافع الغريزية التي تكشف عما يحتدم في أعماق الفنانين من الصراع القائم بين تلك الفكرة التحررية التي تهدف إلى البساطة والنقاء وبين ما يخفى وراء قناع هذه الحضارة المادية من المساوئ والعلل التي يرزح تحت عبئها المحطم مجتمعنا الحديث، وهكذا يتمثل في الوحشية بساطة فطرة البدائي المتوحش في الأسلوب ووحشية الانفعال الصارخة بنقاء الألوان.مع تشويه الإشكال وتحطيم الخطوط.ويقوم هذا المذهب أيضا في طرق الأداء التي اتبعها الفنانون المصورون الذين ينتمون إلى هذا الاتجاه على المبادئ الآتية:
1.الضوء المتجانس.
2.البناء المسطح.
3.تألق المسطحات المستوية بدون استخدام الظل والنور.
4.تبسيط الأسلوب الأدائي.
5.التجاوب المطلق بين الإيحاء الانفعالي والإعداد الداخلي بواسطة التكوين الزخرفي ويقول ماتيس عن التكوين انه فن الإعداد للعناصر المختلفة بأسلوب زخرفي يأخذ طريقه خلال تعبير الفنان عن مشاعره، وان مطابقة الشكل الأدائي للمضمون يمكن تحويرها عن طريق رد الفعل الطبيعي لان التعبير إنما يبدو في السطح الملون الذي يراه الناظر كلا واحدا.
وباختصار فالوحشية إنما هي الإحساس الغريزي الحركي، انه اصطدام هذا الإحساس الغريزي بما تلتقطه حاسة العين حيث تتهذب عناصره بوضعها في تكوين متآلف وبتركيز الحواس مع العناية بالاقتصاد في التفاصيل وتبسيطها وأن هذه الوحدة القائمة في الأشياء المنقولة عن الطبيعة مع ما يستحدث من التغير والتحوير لما يتميز به المذهب الوحشي عن المذاهب اللاحقة له مباشرة والتي تستخدم ألوانا اصطلاحية وكذا التعبيرية ذات الميول التصويرية في استعمال الأضواء والظلال..
*بول جوجان: رسام فرنسي ولد عام 1848 وتوفي عام 1903 تخرج من بين أحضان المدرسة الانطباعية إلا أنه أبدى ميولا أخرى، فكان من المؤسسين لحركات فنية لاحقة كان له بالغ الأثر على أتباع المدرسة الوحشية.
**هنري ماتيس: مصور ورسام فرنسي ولد عام 1869 بشمال فرنسا وتوفي عام 1954بالقرب من نيس، يعتبر أول رائد لحركة ثورية فنية في مستهل القرن العشرين، حيث ورث ماتيس استعداده الفني عن والدته التي كانت من الهواة الموهوبات في فن التصوير.