صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

المسار السياسي للحزب الشيوعي العراقي (1-2)

  في الحلقة قبل السابقة تحدثنا عن ظروف تشكل الحركة السياسية في العراق, وفي الحلقة السابقة تحدثنا عن الحزب الشيوعي العراقي وظروف تكوينه والبيئة التي انطلق منها، وفي هذه الحلقة سنختبر استنتاجاتنا الرئسية من خلال سياسات الحزب ومواقفه وممارساته، لنتمكن من الاجابة على اسئلة من قبيل هل فعلا كان يجب نشوء حزب وطني يساري، بدلا عن الحزب الشيوعي من اجل تحقيق النجاح في المهمات التي لم ينجزها الحزب الشيوعي، وهل كان يمكن تفادي الكلف الدموية الهائلة التي ترتبت على عمل…

 

في الحلقة قبل السابقة تحدثنا عن ظروف تشكل الحركة السياسية في العراق, وفي الحلقة السابقة تحدثنا عن الحزب الشيوعي العراقي وظروف تكوينه والبيئة التي انطلق منها، وفي هذه الحلقة سنختبر استنتاجاتنا الرئسية من خلال سياسات الحزب ومواقفه وممارساته، لنتمكن من الاجابة على اسئلة من قبيل هل فعلا كان يجب نشوء حزب وطني يساري، بدلا عن الحزب الشيوعي من اجل تحقيق النجاح في المهمات التي لم ينجزها الحزب الشيوعي، وهل كان يمكن تفادي الكلف الدموية الهائلة التي ترتبت على عمل وكفاح الحزب لعقود.. وهل فعلا ان العامل الاقتصادي في تاسيس الحزب كان ياتي بعد عامل التنوع العراقي الذي جعله مقصدا لكل الفئات المحرومة من حقوقها الثقافية او الدينية او القومية.. وهل مثل العنصر البشري مشكلة في الحزب قادته احيانا الى مواقف لا تتناسب مع مبادئه ومصالحه؟.

 

في اربعينيات القرن الماضي نشط الحزب الشيوعي بشكل كبير بعد ان اكمل هياكله التنظيمية في الفترة التي سبقتها وقد تصاعد ذلك النشاط حتى تجلى بشكل واضح في دوره البارز فيما عرف بوثبة كانون 1948 التي بينت تاثيره الذي يتجاوز حجمه التنظيمي بكثير ورغم  سلسلة من النكسات مرت بالحزب تباعا من اعدام قيادته التاريخية وانهيار قيادات اخرى وحملة قاسية من القمع ادت الى تشتت التنظيم وفقدانه لمركزيته فان الحزب تجاوز هذه المحن واستمر في تقديم تجربة حزبية سياسية غنية اعتمدت على فهم للتراث المحلي وتقمصه والافادة منه رغم صعوبة ذلك خصوصا في بلد بالغ التنوع واحيانا التناقض ساعده في ذلك، كونه الحزب الوحيد الذي كان قبلة كل فئات المجتمع بخلفياتها العرقية والدينية، وقد كان اختبار تعافي الحزب واستعادة قابلياته التنظيمية تجلى في دوره البارز بما عرف بانتفاضة تشرين 1952, لكن رغم ذلك فان الحزب ظل تنظيميا محدودا وابعد عن ان يكون حزبا جماهيريا بسبب ملاحقات السلطة الامنية واشتراطات العمل السري الصعبة, لكن ذلك لم يمنع ان يكون للحزب تاثير واسع على جمهور عريض اوسع كثيرا من حدوده التنظيمية وحتى الفكرية باتباعه سياسات ومقاربات سياسية اجتماعية بالغة التماهي مع مزاج وقيم وعادات المجتمع رغم اختلافه عنها في الجوهر ولذلك فان الحزب اختزن قدرة كبيرة على التوسع والانتشار كان لها ان تظهر في اول فرصة حانت بعد 14 تموز 1958 رغم عدم قدرة الحزب التنظيمية على استيعاب الاعداد الكبيرة وفرزها على أساس فكر الحزب. لقد اوضحت الاحداث اللاحقة لـ14 تموز 58 حقيقة عدم وجود مفكرين في الحزب يقومون باتخاذ مواقف مناسبة  ازاء احداث بعيدة ومختلفة عن بيئة النظرية, فقد كان التخبط وانعدام الرؤيا واضحا في الموقف من الزعيم عبد الكريم قاسم وحكمه والتحديات التي واجهته بحيث انه في مرحلة كان مجرد ملحق لحكمه في حين لم يتمكن من توفير تصور لاطار العلاقة ومستقبلها وبناء اساس مادي لمواجهة عواقب هذا التصور حين تحققه, هذا عدا عن عدم السيطرة على جزء من جمهوره الذي قام بممارسات خاطئة بل واجرامية في بعض الاحيان بعيدة عن فكر الحزب ونهجه المعلن وحتى مصالحه ما يؤكد ماذهبنا اليه من ان العنصر البشري كان احد مشاكل الحزب وهو امر تجلى في احداث عنف ابطالها عناصر محسوبة على الحزب في مناطق عدة من العراق ففي الموصل وتحت عنوان محاربة القوى الرجعية والعميلة المعادية للثورة، وفي خضم تداعيات حركة الشواف جرت اعمال قتل خارج القانون طالت مدنيين, وفي كركوك جرت مذبحة ضد مواطنين تركمان وتحت يافطة الدفاع  عن الثورة ضد الطورانية وعملاء شركات النفط نفذها شيوعيون اكراد بدوافع محض عنصرية.

 

لم يتحدث الحزب بشكل مباشر عن هذه الاحداث الهامة التي ضربت مصداقيته واحد اسباب صمته تركيبته فبسبب كونه حزب التنوع العراقي كان الاكراد في مراحل هامة من تاريخ الحزب يمثلون ثقلا في قيادة الحزب وهو ما اطلق عليه بعض الكتاب المرحلة الكردية التي سبقتها المرحلة اليهودية، والتي كان فيها لليهود العراقيين دور هام واكبر من حجمهم في المجتمع وهو مع كون مؤسس الحزب مسيحيا، وفي فترة قصيرة لاحقة كان السكرتير العام صابئيا يوضح اهمية تنوع المجتمع العراقي كاولوية في نشاة الحزب على العامل الاقتصادي، سيما وان معظم القيادات والكوادر القيادية في الحزب من الاقليات لم يكونوا عمالا او كادحين ويستطيع اي مطلع ان يسترجع اسماء قيادات الحزب من الكرد واليهود والاقليات الاخرى ناهيك عن عموم الكادر القيادي ليكتشف ان القليل فقط كان من اصول عمالية حيث البعض كان من عوائل دينية او من العوائل المرموقة بحيث يكمل اولادهم تعليما عاليا واخرين موظفين او ابناء موظفين, وكل ذلك يؤكد اولوية الانتماء للحزب على اساس غير طبقي وانما طلبا لحقوق قومية او وطنية او دينية.

 

لم يكن الحزب الشيوعي العراقي منذ تاسيسه بحاجة الى اي اداء فكري تجديدي فقد كان اداء الحزب يمضي بشكل ينسجم مع المرحلة التي تمر بها الاحزاب الشيوعية والمحكومة بسياسات متشابهة وعلى اسس فكرية واضحة انسجاما مع السياسات والتوجهات الفكرية الستالينية، اضافة الى ان الحزب كان في مرحلة تتطلب منه جهدا تنظيميا في الاساس، حيث كان الحفاظ على وجود الحزب اولوية ,وارتباطا بذلك عمد الحزب للتركيز على ابتكار وسائل اختراق المجتمعات المغلقة امامه (نظريا ومبدايا) مما جعله يستحضر تراث وتقاليد كل منها من اجل توفير ادوات للاختراق وهو ما اخذ جهودا عظيمة من الحزب ابدع في النهاية في انتهاج مقاربات جعلت فكره البالغ الثورية لمجتمع تهيمن عليه القيم العشائرية والدينية كالمجتمع العراقي يصبح مقبولا حتى في اكثر الاوساط المغلقة والمحافظة, واذ سمح ذلك للحزب بالبقاء والتوسع رغم كل صنوف القمع القاسي لكنه لم يساعد البتة في انتاج مفكرين مجددين، بل وفر منظمين باشكال والوان واداءات مختلفة وقد ساهم العمل السري وعدم الحصول على الشرعية القانونية في تعزيز دور المنظمين على حساب اصحاب الفكر والتجديد, فكانت القيادة حكرا عليهم دائما, هكذا كان الامر مع فهد مؤسس الحزب رغم بعض الكتابات التي تضمنت افكارا تقليدية تتماهى مع المرحلة الستالينية، وكذلك مع بهاء الدين نوري وعزيز محمد وسلام عادل وجمال الحيدري والقائمة تطول باسماء مناضلين امنوا بقضية الحزب وتمتعوا بمهارات تنظيمية فريدة مكنتهم من العمل في ظروف معقدة ومختلفة من جبال كردستان الى ارياف الجنوب الى ازقة واحياء بغداد ومدن العراق الاخرى وانتهى غالبيتهم نهايات مشرفة.

 

لقد فرض انقلاب 14 تموز 1958 وضعا جديدا كانت الحاجة فيه لاول مرة الى مقاربات فكرية جديدة تنتج مواقف سياسية مناسبة للاحداث غير المسبوقة, اذ رغم الحاجة الدائمة لمناضلين اصحاب قدرات تنظيمية لكن الاولوية اصبحت  للافكار سيما وان العمل شبه العلني فرض على القادة الذين عملوا طويلا في السر، الظهور واتخاذ مواقف سياسية لاحداث مستجدة ومتغيرة وهو امر لم ينجح اذ خضع هؤلاء لرغبات جمهور هو اصلا ليس جمهورا اصيلا للحزب الشيوعي, اضافة الى المسألة المهمة في كون هؤلاء القادة غير مؤهلين فكريا للنظر للاحداث بموجب مقاربات فكرية غير نمطية تتناسب مع جدة وفرادة التطورات السياسي.

 

في العام 1963 حدث انقلاب 8 شباط, وقد كان ردا من فئات اجتماعية مختلفة ولاسباب عدة على توجهات حكومة عبد الكريم قاسم, وهي حكومة لم تقم باي اجراء اشتراكي او ثوري مثل تاميم النفط، وكل ما قامت به كان اجراءات وطنية لخدمة عموم المجتمع وفق نظرة قاسم التي ارادت انصاف الفقراء ولكن دون الاضرار بالاغنياء حسب قوله وهكذا عمليا كانت فترة حكم قاسم فترة ذهبية للبورجوازية العراقية التي تم تشريع قوانين عديدة لخدمتها,. فاذن لم تتضرر الفئات الاجتماعية الممسكة بالثروة (عدا الاقطاع) اقتصاديا, فلماذا تميزت 8 شباط بالعنف البشع الذي مورس على الالاف من الوطنيين العراقيين وخاصة الشيوعيين ؟قد يكون الجواب انه عنف رد على عنف سابق, او ان هذا يرجع لطبيعة حزب البعث ..بالطبع يجب ان نستبعد فرضية الثورة المضادة من قبل القوى الطبقية المعادية للحزب الشيوعي التي تهددتها اجراءات راديكالية في ثرواتها لان هذا امر لم يحدث,فنقول ان 8 شباط نفذمن قبل جبهة واسعة من الحلفاء بدور بارز لحزب البعث الذي هو بدوره كان اكثر من حزب عقائدي لتضخمه بعد 1958 بسبب انتماء الكثيرين له ممن تضرروا من اجراءات وتوجهات الزعيم قاسم ومن شعبية الحزب الشيوعي دون ان يكونوا بالضرورة بعثيي العقيدة وكان ذلك واضحا من خلفيات العديد من البعثيين الذين اما كانوا من مخلفات العهد الملكي او ابناء اقطاعيين وسراكيل او عنصريين عرب..الخ.

 

إقرأ أيضا