قبل محاولة العيش في الحياة, ينبغي علينا فهمها أولاً, ولعلها الفضيلة الأسمى في الوجود أن نفهم تلك الكيفية.
مثلما يهتم العالم في فهم طبيعة الأشياء محاولاً تحليلها ومعرفة البنية الطبيعية لعناصرها, نسعى كذلك لنتصرف كما العالم في مختبره لفهم طبيعة الحياة.
كلما حاولنا تلطيف الحياة بمزيد من العبارات المنمّقة فسوف تبدو طبيعتها معاناة!, ومن يفهم طبيعة الأمور على حقيقتها لا كما يرغب, سينسجم في هذا العالم دون محاولة الهروب والتخلص من المعاناة, لأنه سوف لن يغير من طبيعتها شيئاً.
فهم المعاناة لا يعني الغوص في العدمية!, كما ولا يعني التفاؤل!, وإنما عيشها كما هي مع رباطة الجأش , بعدها نشرع في الضحك -ربما- عندما ندرك زواليتها. نحن نخشى الفقدان في هذه الحياة؛ فقدان من نحب وعلى حيازاتنا الثمينة التي فزنا بها بمجهود مضاعف لنراه يتلاشى في لحظة واحدة.
لا يمكن وصف شعور الفقدان, فكل ما في الأمر سيتحول هذا الشعور إلى كتلة هائلة من المعاناة, ويتدفق لدينا هاجس المقاومة بكل ما يحمله العنف من معنى وتغدو الصيرورة عدونا الأول, ذلك إنها تذكرنا دائما “إن دوام الحال من المحال”.
طبيعة الأشياء هي الانحلال والتغيير والتلاشي, فلا نملك إزاء هذه الحركة سلطة يمكنها إن توقف الفقدان. نحن كائنات خاسرة في نهاية المطاف!, ذلك إن شروط ملكيتنا معدومة فلا نملك شروط بقائها وفنائها.
نعوض ذلك الخسران المبين بمزيد من التملّك الصبياني بعبارة (لي) و(أنا). مهما حاولنا التلطيف والتلميع واختيار الجمل المنمّقة لوصف الواقع, يبقى هذا الأخير لا يخرج عن طبيعته الحقّة وهي المعاناة.
إن إدراك طبيعة المعاناة يخفف من جلد الذات وليس العكس, ذلك إن فسحة الابتهاج ستزداد والمعاناة ستتضاءل حينما نفهم إننا راحلون, وضيوف, ومسافرون.
المسافر لا يبخل بلحظات الابتهاج ويخفف من المحمل قدر الإمكان, ويعمق الذكريات الدافئة والحميمة, ولايبدو شحيحاً في الألفة مع الأشياء بدلاً من الهروب من معاناتها, ذلك إن الهروب يرسّخ المعاناة ويضاعفها.
فهمنا للمعاناة يدفعنا لتعميق روح التضامن مع بعضنا البعض, فلكل واحد منّا معانته الخاصة في هذا الحلم الكبير الذي نسميه حياة. يدفعنا المتشائمون للمزيد من الخوف, ويدفعنا الحالمون للمزيد من الأمل الزائف. يصّر المتشائمون بطريقة تعبوية فجّة لإخافتنا من ذلك الفقدان المبين, إنهم يجرحون تواضعنا للهروب من الشيخوخة والموت. ويستبسل روّاد الأمل الزائف لإرواء عطشنا المستديم للحياة, والتمسّك بالخلود, إرضاءاً لعطش الأنا المخيف للصيرورة.
وكما هو معلوم إن مانخافه ونأمله محتّم علينا فقدانه, فنحن ندور وسط ثنائية وهمية من الخوف والأمل ؛ نخاف من الموت ونخاف من فقدان من نحب ونحن نعلم حتميته . ونحن بهذا كحالمٍ في المنام استيقظ مرعوباً من كلبٍ كان يطارده في منامه!.
لقد اعتدنا أن نعتبر التشاؤم نقيض الأمل!, فليس هنا المقصود التمسّك بالتشاؤم, وإنما الخروج من هذه الثنائية الوهمية (الخوف والأمل). لقد فرّخ لنا الخوف أوهام شتّى ؛ فنحن نخاف من الظلمة , ونخاف الكوابيس, ونخاف من المجهول, ونخاف السكينة!. وفرّخ لنا الأمل أوهام شتّى ؛ الأمل بالسكون من خلال شرب الكحول, والأمل بالنشوة من خلال مضاجعة أكبر عدد ممكن من النساء, لكننا نستمر بالمعاناة مالم نفهم طبيعتها.