منذ أعوام كثيرة كانت مُلتقى الشرق والغرب رُغم أنـَّها المدينة غير المُتفـَق على خارطتها، أو إنَّ تفاصليها الأنثروبولجيّة مَسَحَت بعض ألوان حُدُودها، ومزجت خريفها بربيعها، وبأرضها التي استراحت دجلة فيها، واحدودبت في جَرَيانها، فمَالت لها منارتها، ونقطة احتكاك وتفاعل دائم لمورفولوجيتها بين الأقاليم الأربعة حتى أصبحت مُتحَف التنوُّع في العصر الحديث.
تاريخيّاً، وحاضراً كانت مقصد الكثير من الحكام على مرِّ سجلات التاريخ والحروب، مواطن نزاع، ورغبات سيطرة مُتعدِّدة، مذابح تارة، وأخرى استباحات باسم القوميّة؛ ورغم ذلك لم يكن قالبها ذا لون واحد، أو معبد واحد، أو صلاة واحدة، فكلها تتعبَّد بالخالق العظيم بطرق تساوي أنفاس الخلائق.
في مُتحَف الذاكرة إن حَلَّ بها العرب بها فقد سكنها الآشوريّون، وعدُّوها عاصمة لهم.. إنـَّها مفتاح العراق كما سُمِّيَت، بل تغرَّم بها الجواهريّ العظيم قائلاً:
أمَّ الربيعين يا مَن فـُقـْتِ حُسْنَهما بثالث من شباب مشرق خضِل
أرض الطوائف التي تارة تكون مسيحيّة، بل عاصمة للديانة المسيحيّة، وتارة مُسلِمة باللون السُنـِّيِّ والشيعيِّ. ففي أواخر القرن التاسع الميلاديّ كانت المدينة المُزدهِرة بالزراعة تحت حكم بني حمدان، وهم سلالة عربيّة شيعيّة إلى أن انتزع السلاجقة تلك البلاد، فلاقت الويلات، وعمَّ الخراب أرجاءها، ونزح أهلها، واستمرَّ ذلك لِمُدّة غير قصيرة، وبعد أعوام تسلـَّمها القائد التركيّ عماد الدين زنكي، وكانت بالنسبة له المركز الذي ينطلق منه ليُوسِّع دولته رافعاً شعار: (نحن شرطة الشريعة)، فحشَّد جيوشه، وبدأ بأمراء الأطراف، ثم سار إلى حلب وحماة، وكان المذهب الشيعيّ مُنتشِراً في حلب، ودمشق، ومصر، فعمل زنكي على مُحارَبة التشيُّع في تلك البلاد رغم أنَّ دولة أبيه وجدِّه في المنطقة كانت سُنـّيّة، لكنها مُتعايشة بصورة أو أخرى، وهُجُومه على الشيعة رُبَّما دفع هذا البُعد التاريخيَّ لزعيم تنظيم القاعدة في العراق المقبور (أبو مصعب الزرقاويّ) أن يُعجَب بشخصيّة نور الدين زنكي؛ لذا كان الزرقاوي يسأل دائماً أتباعه عن أيِّ كتاب مُتوافِر عن نور الدين، وعمَّ الاعتقاد أنَّ ما قرأه عن نور الدين، وانطلاقه من أرض الموصل في العراق كان له دور كبير في التأثير في فكر القاعدة.
منذ ذلك الوقت، وبسنوات سبقت دولة “أبو بكر البغدادي” القاعدة واخواتها التي لم تكن تحترم حُدُود الجغرافية جعلت الزرقاويّ يختار العراق، مُنطلـَقاً لصناعة التوحُّش في مطابخ التطرُّف، ولاحقاً كانت نقطة تمركز داعش، ورُبَّما قد حاولوا الانطلاق من الكهوف الظلاميّة بقراءة جغرافية شمال العراق، والبيئة الجبليّة القريبة من الأنموذج الأفغانيّ.
ثمّة رغبة مُتعمَّدة لأن لا نقرأ تاريخنا، أو -كما يقول الكاتب العراقيّ سليم مطر-: بذاتنا الجريحة جُرُوح الحداثة والوطنيّة؛ لذا لم نقرأ تاريخ مُدُننا بحُجّة الأخوّة، والوحدة الوطنيّة، فلم نسمع تفاصيل مُدُننا، مساجدنا، كنائسنا، معابدنا.
إنَّ مَن يقرأ تاريخ مدينة الموصل سيجدها ليست عربيّة سُنـّيّة فقط، الموصل مدينة التنوُّع العراقيِّ بأكمله، بل تختصر هُويّة العراق التعدُّديّة، ومن أكثر المُدُن العراقيّة التي تتمتـَّع بتنوُّع دينيٍّ وقوميٍّ منذ آلاف السنين إذ تتواجد في المدينة القوميّات العربيّة، والكرديّة، والتركمانيّة، والآشوريّة، والكلدانيّة، والسريانيّة، والأرمنيّة، والمُكوِّنات الكاكائيّة، والشبكيّة، وأتباع الديانات الإسلاميّة، والمسيحيّة، والأيزيديّة، والصابئة.
رُبَّما واجهت الموصل حالها حال بقيّة المُدُن تركة ثقيلة من التلاعُب الديمغرافيِّ، وحتى عند قراءتنا لمجلس محافظة نينوى قبل أحداث حزيران 2014 التي تتكوَّن من 39 مقعداً إذ حصل الأكراد والآيزيديّون على 11 مقعداً، و6 مقاعد للتركمان فيما توزَّعت المقاعد الأخرى بين الشبّك والمسيحيِّين، فيما يضمُّ المجلس ثلاثة أعضاء فقط من أهالي مركز المدينة.
عُمُوماً فإنَّ طريق تحرير الموصل اليوم بدأ يسري بدماء شيعيّة قادمة من الجنوب، وسُنـّيّة من أبناء العشائر، والقبائل الأبيّة التي تـُحارب اليوم أعتى التنظيمات الإرهابيّة.