“الإدراك مقتلة للفعل.. الفعل يعتمد على ستار من الوهم..”.
نيتشه- مولد التراجيديا
مرّة سمعتُ أحد الرياضيّين، كان قد عاد للتوّ من أولمبياد لندن 2012، قال ما معناه لفضائية عراقيّة محليّة: “إنّنا ذهبنا وما من محفّز يدفعنا للفوز حتّى وإن كنّا نملك هذه القدرة، فبمجرّد وصولنا إلى هناك، تردّدنا أمام الإسبانيّ والإيرلنديّ واليابانيّ..”، ومضى يفسّر زعمه بأنّ “واقع البلد عموماً يقلّل من الثقة بالنفس!”.
استوقفني كلام الرياضيّ كثيراً وتأثّرت به حينها، ورحت أمعن في أبعاد حديثه، وأضعه في مساحة اليأس نفسها الحاضرة في ميادين أخرى، الثقافة مثلاً، إذ نلمس خطاب التيئيس مُضمراً أحياناً أو ظاهراً في ردود أفعال مثقفين وكتّاب، من الذين يفتتحون كلامهم عن أي فعل بعيد عن قناعاتهم الشخصيّة: “وشنو الفايدة؟ (ما الفائدة)”. الحقّ أنّ هذه العقليّة هي ذاتها التي كانت تستغرب منك الخروج في تظاهرة أو التحريض على احتجاج أو حتّى تأييده في مقال رأي.
نحن نعرف أنّ أربعة عقود من قتل روح المبادرة في المجتمع وفي النخبة الثقافيّة، ليس سهلاً تخطّيها بصندوق اقتراع ودستور جديد في الإطار العام، وببضعة فعاليّات تغادر القاعات المغلقة وبوجوه ثقافيّة جديدة يظهر أنّها غادرت نهائيّاً الصور التقليديّة عن الكاتب والأديب من “صعلكة” و”نأي عن الشأن العام”.
ففي الماضي، وبحلول العام 1979، صارت طليعة المثقفين أمام خيارات محدودة منذ أن كشف النظام السابق عن وجهه الدموي، هي إمّا الهجرة النهائيّة عن البلاد، وإمّا الاندغام في المؤسّسات الثقافيّة لنظام البعث، أو العزلة التامة، أجمعها يتجّرع معتنقها قدراً ما من كأس المرارة، لكنّ أمرّ الخيارات هو ذلك الاندغام والانتقال من ضفة إلى ضفة.
طريق سالكة
أتيح للكتّاب بعد 2003 (الجدد منهم بنحو خاصّ)، أن يكونوا أحراراً للمرّة الأولى في تاريخ البلاد، من دون أنْ يُفهم هذا الاعتقاد على أنّ النظام السياسيّ الجديد بأحزابه الفاسدة، هو نظام ديمقراطيّ مثاليّ، لكن بمعنى أنّ الكاتب صار بإمكانه الاختيار بين العمل في صحيفة أو فضائية مستقلّة (نوعاً ما وليس كليّاً)، وبين العمل في صحيفة حزبيّة إسلاميّة أو ليبراليّة (سواء من الأحزاب التي أسهمت في نهب الثروات أم التي تورّطت بالدم العراقيّ والقتل الطائفيّ).
في العمل الثقافيّ أيضاً، صار واضحاً أنّ الطريق سالكة، وإنْ بصعوبة بالغة، أمام من يريد تأسيس كيانات وجماعات وفعاليّات مُستحدثة في مضمونها وشكلها، بخلاف من يصرّ على الرتابة، ومثالنا القريب أن تبقى تعمل في الصحافة الثقافيّة، بتقديم صفحة تصطف فيها القصيدة إلى جوار القصّة والمقال النقديّ، من دون أي ابتكار في المادّة المُنتظرة من لدن القارئ، والحال مُشابهة بالنسبة إلى من يريد أن ينظّم ندوة ثقافيّة، جمهورها متكرّر وفقراتها شاعر على منصته أو ناقد على طاولته، تختتم بباقة ورد في ألطف الأحوال!.
تجاور ايجابي
من هذا الواقع وفي ظلّ الافتقار إلى مبادرات تأسيسيّة في المشهد، طرحت على زملائي في “بيت الشعر العراقي”، خريف 2013، فكرة إطلاق مسابقة لقصائد الأطفال بين (6-12) سنة، نتسلّم فيها إسهاماتهم بخط اليد، وفعلاً رحّب الزملاء وجرى تبنّي الفكرة والشروع بالعمل على إطلاق جائزة يكون ناتجها الأساسي كتاباً يجمع قصائد المتقدّمين من الأطفال مع رسومات أقران لهم، تتجاور في كتاب واحد نعتني بإخراجه الفنيّ وبمضمونه.
المبادرة التي جوبهت بدايتها بشيء من عدم التفاعل لدى جماعة “شنو الفايدة؟” و”أين ستجدون أطفالاً يكتبون الشعر أو يعرفونه؟”، ربّما من أهمّ أهدافها هو تحقيق هذا التلاقي بين أطفال من محافظات شتّى ومن مكوّنات وخلفيات إثنية مختلفة.
كان الدافع الأساس من هذا التجاور بين نصوص ومشاركات هؤلاء الأطفال، اكتساب تجاور ايجابي آخر لانتماءات وهويّات ثانوية تتلاطم في بحر العراق الملتهب، الذي واجهت الهويّة الوطنيّة فيه منذ العام 2006 أصعب الاختبارات وأقساها.
وصارت بغداد، مركز العمل الرئيس في المسابقة بين 2013 و 2014، إذ واصلنا أيّاماً طويلة نتنقل بين المدارس الابتدائية في بغداد، وبالأخصّ ذات السمعة المتميّزة لجهة المستوى التدريسيّ، بين أحياء المنصور والحارثية والكرّادة وشارع فلسطين والوزيرية وبغداد الجديدة وبعض المدارس في مدينة الصدر والشعب والحريّة.
مدرسة “راهبات التقدّمة” في كرّادة بغداد، كانت المحطّة الأولى في هذا المسعى، هناك واجهني ردّ مفاجئ من مديرتها بلباسها الدينيّ الأبيض، قالت: “لا نريد لأبنائنا الكتابة في أمور السياسة ومشكلات البلد؟، سألتها: يا أمّنا من أراد ذلك ليتهم يكتبون عن حائط المدرسة والرسومات التي عليه؟ فأجابت ثانية: “مع ما تقول الخشية موجودة”.
للوهلة الأولى لم أتقبّل ما لاقيته من هذه السيّدة الوقورة، لكنّ منطق الارتهان إلى الواقع، حتّم عليّ تفهّم هذا الخوف، خاصّة من مديرة يقول مظهرها إنّها تحمل كلّ ألق الوجود المسيحيّ الذي تضاءل بحقّ منذ الاجتياح الأميركيّ للعراق 2003.
كانت الكرّادة والمنصور والوزيرية من الأحياء التي وقعت عليّ مسؤولية تأمين وصول دعوة المسابقة إلى مدارسها، فضلاً عن متابعة وصول الفكرة إلى محافظات نائية بوساطة أصدقاء لنا، فوصلت إلى وسط وجنوب العراق بمعونة من دائرة العلاقات الثقافيّة ودار ثقافة الأطفال في وزارة الثقافة، ومديرية النشاط المدرسيّ في وزارة التربية.
تسارع أحداث
حينها كان الوضع غير المستقرّ في محافظات الأنبار وصلاح الدين ونينوى حائلاً دون وصول النسبة المأمولة من الإسهامات. وفي واحدة من المُفارقات طلبتُ من أحد الشباب الأنباريّين الذين عُرف عنهم وعيهم وتمرّدهم حتّى على جوّ مدينتهم، وهو “علي إينوما”، إيصال الدعوة إلى مدير تربية الأنبار، أتذكّر أنّه كان يستعد لمغادرة المدينة نحو بغداد، لكنّه تلقّى طلبي بكلّ احترام ورُقي وسلّم ما أرسلناه للمعني هناك، غير أنّ تسارع الأحداث منعنا من بلوغ طموحنا ولو بقصيدة واحدة من هذه المحافظة، يوم بدأ فيها مطلع 2014 الانهيار الأمنيّ الكبير، وشهدنا بدايات دخول عناصر من “داعش” إليها، حتّى أنّ علي إينوما نفسه صار اليوم لاجئاً في السويد، بعد تشرّد ما بين بغداد واسطنبول.
مثلما تكفّل صديقنا الناقد د.أحمد الظفيري بمهمة إيصال الدعوة إلى محافظة صلاح الدين، المؤسف أيضاً ما من مدرسة رشّحت أحداً من أطفال تكريت أو سامراء.
مبعثُ الخيبة في تجربتنا الأولى مع المسابقة، هو عدم تفاعل وزارة التربية في إقليم كردستان مع طلبنا الذي أرسلناه إليهم رسميّاً وفي رسالة الكترونيّة أيضاً، طالبين منهم قصائد بخط الأطفال يكتبونها بالكرديّة ونحن نترجمها إلى العربيّة لتدخل إلى المنافسة، وحتّى اليوم أجهل سبب غياب الأطفال الكرد عن المبادرة ككل، وهل كان غيابهم نتيجة مجرّد تقاعس إداريّ بحت!.
أحزننا بحقّ ألا تصلنا قصائد بلغات أخرى غير العربيّة، كرديّة كانت أم سريانية أو حتّى تركمانيّة، تحقيقاً للتنوّع المبعثر الذي يمكن للشعر أن يجمعه، والمؤسف أكثر إنّ أطفالاً من السليمانية والموصل وكركوك، يكتبون بهذه اللغات أبدوا رغبتهم في المشاركة بعد انتهاء مهلة التقديم.
خمسة فائزين
دقّقنا كثيراً في ما كتبه التلميذ “عبد الحق فاضل حسين” من “الموصل- مدرسة النعمان بن المنذر”، قبل اتّخاذ قرار بمنحه الجائزة الأولى عن قصيدته “الإصرار على العمل”، بعد حصوله على أعلى الدرجات بين المتسابقين، إذ اتّصلت به سائلاً عن حاله وإذا ما كان يتوقّع الفوز، فردّ هو وأهله بأنّهم مشغولون بسفر والده المريض لبتر ساقه في تركيا!
المهم أنّ عبد الحقّ فاز ووصلته الجائزة قبل احتلال داعش لمدينته، ومن ثمّ انقطعت أخباره عنّا.
وفاز “تميم لؤي حمزة” من “البصرة” عن قصيدته “تمثالي”، ومعه “روان سالم حسين” من بابل عن قصيدتها “أجمل غنوة”، بالمركز الثاني مناصفة. وبرغم أنّ مديرة “الراهبات التقدّمة” ببغداد، لم تستجب للمبادرة، قدّمت إحدى العائلات البغداديّة من سكنة الكرّادة لابنتها بصفة شخصيّة، وشاءت المصادفة أن تكون التلميذة دانية صدوق أبو طالب من هذه المدرسة، وفازت فعلاً بالجائزة الثالثة مناصفة مع الطفل “أبو الفضل صفاء” من “محافظة المثنى- مدرسة النهروان الابتدائية” عن قصيدته “يا رحلتي”.
ومن الايجابيات في المبادرة، انتباه عدد من العائلات العراقيّة المهاجرة خارج البلاد واندفاعهم للمشاركة فيها، ومن بينهم الطفلان زهراء فلاح من أميركا، وأمين صابر مهدي من السويد، بقصائد ورسوم تبشّر بخير.
بعد حداثي
ولمنح الجائزة بعداً حداثياً يرتبط باسم مجدّد في الشعريّة العراقيّة والعربيّة، اخترنا هذا المقطع للشاعر سركون بولص (1944- 2007) وحفرناه على لوح الجائزة: “حثُّوا الخطى نحو بيت الحياة الذي لا يموت”، لتحفيز استمرار الإبداع الجديد الذي يحتاج إلى الدعم والتقديم؛ مستثمرين سيرة أيقونة بارزة في الشعر العراقيّ، للارتقاء بنبض هذه المحاولات الغضّة ومنحها طاقة ايجابيّة، ضمن ما أسميناه بـ”نبض الكتابة”، فهو عنوان الكتاب الذي احتوى القصائد أجمعها (المكتوبة بخط اليد سواء الفائزة منها أم التي تقدّمت إلى المسابقة ولم تنل جائزة ما، برفقة الرسومات طبعاً).
مُناسبة العودة إلى تلك القصّة، التذكير بقيمة الفعل الثقافيّ البعيد عن أي إملاءات حكوميّة، وبوهمِ أنّك تفعل شيئاً في هذا المكان كي لا يصدمك الواقع لاحقاً، في عمل ينبع من المجتمع وإليه عبر عنوانه الأصدق “براءة الأطفال”، وندرك جيّداً كم من هؤلاء ساعدهم أهلهم وتدخّلوا في ما كتبوا، وبعضهم كتب له ذووه، مع هذا التطلّع موجود لتكرار التجربة بتوفّر ظروف نجاحها مجدّداً.
المسابقة في دورتها الأولى، كانت جامعة لروح العراق المتشظي في خطابات أمراء الطوائف وزعماء الأحزاب، وهم يتنعّمون بخرائب قصور صدّام يقيمون في عمرانها المسيّج بالكونكريت، تاركين معمار الإنسان في الخارج متهتكاً وضائعاً. مسابقة مركزها في بغداد، يفوز فيها أطفال من الموصل والبصرة وبابل والمثنى، فضلاً عن بغداد، ويتسلّمون لوح جائزة منقوشاً عليه مقطع من قصيدة الآشوريّ المجازف، الذي قال عن بلده في قصيدته المشهورة “بورتريه للشخص العراقيّ في آخر الزمن”: “أعطهِ أيَّ سجن ومقبرة/ أعطه أيَّ منفى/ أيَّ هنا، أو هناك/ ورغم ذلك يمكنك أن ترى/ المنجنيقات تدكُّ الأسوار/ لتعلو مرّة أخرى./ وتصعدُ أوروك من جديد..”.