تؤكد النبشيات والدراسات الإركيولوجية و علم الإناسة أن الخمور بأنواعها وجدت قديما في حضارات بلاد الرافدين و ورد ذكر الجعة (البيرة) في ملحمة جلكامش الشهير في الفصل الذي يلتقي فيه الملك بصاحبة الحانة سيدوري.
أما في بغداد عاصمة الخلافة العباسية (وقد كانت دولة دينية صرف يرأسها خليفة وتطبق فيها ما تسمى اليوم الشريعة الإسلامية ) فقد كان الخمر موجودا بشكل علني واسع النطاق كمادة غذائية وشراب مسكر، وكان شاربوها يدافعون عن موقفهم منها ويحسنون شربها ويبينون فوائدها كما نقرأ في كتب التراث ومنها مثلا ” نشوار المحاضرة للتنوخي ج3 ص 143 و العقد الفريد لابن عبد ربه ج6 ص 361.
وكان أبو فاتك، الملقب بقاضي الفتيان – الفتيان هو الاسم البغدادي لمعاقري النبيذ عهد ذاك – يعلم فتيانه آداب الطعام وشرب النبيذ و يصفه بأنه (من أفضل ما يحوط الفتى نفسه ويحفظ به مروءته/ الجاحظ/ البخلاء ص 119). وكانت بعض أنواع النبيذ غالية الثمن كثيرا في بغداد كما هي خمور حي الروم، و لكن بعض الحانات و الأديرة كانت تقدم النبيذ مجانا لبعض زبائنها ومرتاديها، كما هي الحال في دير قوطا الذي كان الخمر فيه مبذولا مجانا لشاربيه، كما يخبرنا أبو إسحاق إبراهيم الرقيق النديم في كتابه (قطب السرور في أوصاف الخمور). ولم تسلم الحانات ومصانع النبيذ من غارات وكبسات المحتسب الحكومي أو الجند الغزاة والمرتزقة الترك. و كالمعتاد فقد كان الفقراء يشربون الأنواع الرديئة من النبيذ كنبيذ البلاذر أما النبيذ المعمول من التمور فاسمه الذادي ومنه أنواع جيدة صافية ورائقة ومركزة وأخرى رديئة و حامضة و عكرة. و عرف إسحاق الموصلي المشهور بشرب نبيذ القطارميز المشمس غالي الثمن، أما ابن المعتز وأبو نؤاس فكانا يشربان الخمرة المعتقة الجيدة في جرار مزفتة .
وقد برع صناع النبيذ في صناعتهم وعرف من هؤلاء الصناع أحمد بن موسى و مفلح، وعرف من تجار الخمور إسحاق الواسطي الصريفيني وكان يضع على فوهة زجاجات الخمر كاغدا وختما كتب عليه اسمه واسم الشراب، كما نقرأ في معجم الأدباء ج5 ص260.
وقد نشأت الحانات مع تأسيس ونشوء بغداد وخاصة في محلة باب الكرخ ثم انتشرت في البساتين المحيطة بالمدينة. أما المتحرجون من شرب النبيذ والسكر علانية فكان يشربونه في بيوتهم وكانوا في أغلبهم من نخبة المجتمع والطبقة المثقفة، منهم المحدثون والنحويون. وذكر ياقوت الحموي أن بعض القضاة كانوا ينادمون الوزير المهلبي ويجتمعون عنده ليلتين في الأسبوع، ومنهم القاضي التنوخي و ابن معروف وابن قريعة ونقرأ في معجم الأدباء عن هؤلاء ما يلي (وما منهم إلا أبيض اللحية طويلها، فإذا تكامل الأنس وطاب المجلس ولذَّ السماع و أخذ الطرب منهم مأخذه وهبوا ثوب الوقار للعقار، وتقلبوا في أعطاف العيش بين الخفة والطيش، و وضع في يد كل منهم طاس من الذهب بألف مثقال، مملوءا شرابا قطربليا (نسبة الى مدينة قطربل على نهر دجلة و موقعها قريب من موقع الكاظمية في بغداد اليوم واسمها البابلي القديم هو قطر بعل) وعكبريا (نسبة الى مدينة عكبراء قرب سامراء) فيغمس لحيته، فينقعها حتى تتشرب أكثره ثم يرش بعضهم على بعض ويرقصون بأجمعهم، وعليهم المصبغات و مخانق البرم (عقود وشدات من زهور البرم ذي الرائحة الزكية النفاذة كانوا يتزينون بها)/ ص 260). أما علي بن عبد العزيز أحد كبار موظفي دار الخلافة، فقد كان يتباهى بأنه يستطيع أن يشرب ستة أرطال من نبيذ الخندريس دون أن يسكر ويسقط منهارا.
طرفة معلوماتية: دعوني اختم بهذه الطرفة التي قرأتها مساء أمس على صفحة صديقي الروائي محمود سعيد بهذه المناسبة وفيها يبدو الجاحظ وكأنه يشجع الناس على شرب النبيذ لأنه يطيل العمر لنقرأ وخلاصة ما كتبه الجاحظ هي أن مجموعة من أدباء ذلك العصر أحصوا عشرين شخصا من قريش، وعشرين من ثقيف ومثل هؤلاء وأشباههم في السن، ممن يشربون النبيذ، ومثلهم من الذين لا يعرفون شراباً إلا الماء، وبعد مرور زمن طويل، وجد الأدباء الذين قاموا بهذه التجربة الإحصائية أن عامة من كان يشرب النبيذ بقيَّ حياً، وقد بلغوا في السن، ومن لا يشربه منهم قد مات عامتهم، أما عثمان ويزال (اثنان من الأدباء الذين قاموا بالإحصائية التجريبية) فكانا من المعمرين.
ملاحظة: اعتمدنا في إيراد وضبط المقتبسات التراثية على كتاب ” العامة في بغداد في القرنين الثالث والرابع الهجري” للباحث د. فهمي سعد/ دار المنتخب العربي بيروت ط1- 1993.
*كاتب عراقي