منذ بعض الوقت والحديث يجري عن مشروع اعده رئيس التحالف الوطني عمار الحكيم لتقديمه باسم التحالف الوطني كمبادرة لمصالحة اجتماعية وسياسية بين الشيعة والسنة عبر ممثليهما المنتخبين, ورغم ان هذا المشروع لم ينشر رسميا لحد الان سوى تسريبات يبدو انها مقصودة لجس النبض.. لكن ذلك لا يمنع من ابداء بعض الملاحظات الجوهرية بغض النظر عن التفاصيل التي ستظهر لاحقا لان هذه الملاحظات تطال جوهر الفكرة ومطلقيها.
ان توقيت الحديث عن هذه المبادرة التي سميت بالتسوية التاريخية ياتي مع معارك تحرير الموصل الدائرة الان وتحسبا لعواقبها السياسية التي رغم الانتصار العسكري المتوقع فقد لا تاتي بالضرورة بنصر سياسي فرغم تعب الجمهور السني وخيبة امله وغضبه ممن اعتقد انهم المدافعين عن حقوقه ورغم جهود الحكومة وتضحيات العسكريين العراقيين وغالبيتهم من الشيعة في تحرير المناطق السنية من داعش فان السنة ليسوا في وارد استخلاص ان الحل هو في بغداد وحكومتها لان العمل العسكري لم يكن جزءا من مشروع سياسي وطني يلحظ هواجس ومصالح الجميع اضافة انه في الماضي القريب لم تترافق الاعمال العسكرية مع ممارسات مطمئنة للسنة رغم الاداء الجيد للجيش العراقي في معركة الموصل ,حيث يترافق ذلك مع استعدادات لقوى اقليمية هامة تدعم لاعبين محليين من اجل ان يكون الصوت السني بعد معركة الموصل موحدا بما يخدم وجهة نظر ومصالح هذه القوى سيما في الجزء الذي يتعلق بمعركة الموصل كجزء من الصراع بين المحور الايراني وغريمه السعودي,في ظل ضعف الدور الداخلي للسنة عموما.
ان مبادرة المجلس الاعلى وباسم التحالف الوطني رغم انها تاتي في هذا السياق الا ان دوافعها اعمق واسبق من ذلك وقد جاءت معركة الموصل وحساباتها لتحرر الهواجس والمخاوف غير المعلنة للمجلس الاعلى بشكل خاص والتي تلامس مخاوف اخرين في التحالف الوطني رغم اختلاف بعضهم المنطلق ليس من الاعتراض على جوهر الفكرة وانما من روح التنافس التي لا تريد ان يحصد طرف في التحالف مزايا قوة التحالف السياسية سيما والمجلس ليس الطرف الاقوى في التحالف رغم رئاسته له.ان اساس فكرة( التسوية التاريخية) هو جزء من تداعيات احداث الشهور الاخيرة التي اظهرت غضب الشارع الشيعي على الاحزاب التي تمثله بل واحتقاره لها بحيث لم تعد العناوين المقدسة والعمائم السود تقف امام الاهانات والشتائم على من كان بعضهم لوقت غير بعيد يعتبر رمزا دينيا ولعل ما جرى من اقتحام للبرلمان رغم دور التيار الصدري الواضح فيه فانه كان انذارا بوصول الامور الى نقطة حرجة يصعب تصور مابعدها سيما وان الياس من اصلاح العملية السياسية قد بلغ مداه بعد عجز العبادي عن التقدم بخطوات عملية للاصلاح الذي تحدث عنه وادراك التحالف الوطني لخطورة ذلك سيما وهو يعرف جيدا خطورة اي اصلاح يمكن ان يحدث على كياناته ومصالحه, وفي هذا فان كل التحالف في خطر بمن فيهم العبادي ذاته الذي وجد نفسه يوما بدون اي غطاء سياسي لاتخاذ اي خطوة تبرر منصبه ,ولولا الدعم الاميركي القوي والتبكير بمعركة الفلوجة التي اعطت زخما لموقعه السياسي ثم التوجه لمعركة الموصل المؤجلة وكل ذلك ليس فقط لم يبدد مخاوف المجلس واطراف التحالف الاخرى بل زاد من مخاوفهم اذ ليس من المصلحة انفراد طرف ببياض وجه امام الجمهور الشيعي سيما وان هذا البياض بدعم اميركي قد يخل بتوازنات ارساها الداعم الايراني لاطراف التحالف الاخرى..
ان المجلس الاعلى صاحب المبادرة واطراف التحالف الوطني الاخرى مدركون تماما ان الاصلاح امر غير ممكن فهم من لايريده لانه يمر على مصالحهم ,كما انهم غير قادرين عليه لان فيه متطلبات لا يستطيعوها ناهيك ان هؤلاء لا يفهمون هذا الاصلاح كفكرة وكاسلوب فهو خارج نطاق تفكيرهم اصلا وهو ان حدث سيجري باليات ليست متوفره ولا يوجد كادر يديرها مما قد يجعل الامور خارج السيطرة.
ان طرح (التسوية التاريخية) في الاساس بديل عن استحقاق اخر ان اوانه وهو تقديم جواب على تساؤلات جمهور واسع جدا من الشيعة عن فساد ممثليهم وضرورة محاسبتهم ,او على الاقل تقديم تفسيرات لتساؤلات اعلنت بصوت عالي عن اداء هؤلاء الممثلين وعن مصادر ثرواتهم الهائلة وهي تساؤلات رغم انها تمس الذمة والشرف والامانة والدين لم يتم الرد عليها لان لا جواب عليها اضافة للقناعة غير القابلة للاعلان وهي ان كل مايحصل عليه ممثلوا الشيعة (الشرعيين) من ثروات وامتيازات انما هو حق الهي.. التسوية التاريخية ستعيد ترتيب اولويات الجمهور الشيعي ليعيد النظر في سلوكه العدائي تجاه القيادات السياسية الشيعية بعد ان اثر فساد هذه القيادات على هذه الاولويات, والمطلوب ان يعود النظر للصراع الشيعي السني كاولوية فهو اكسير حياة الاحزاب الشيعية والسنية.. ان التسوية التاريخية تفتقر للمشروعية بشكل مطلق ناهيك عن استحالة تطبيقها عمليا, اذ رغم الشرعية القانونية للقيادات الشيعية والسنية فانها لاتملك مايكفي من الشرعية للحديث باسم جمهور يعبر عن سخطه عليها صباح مساء اضافة الى ان الطرفين ليسا قادرين على تقديم التنازلات المفترضة في تسوية من هذا القبيل.
ان الطرف الشيعي الذي يروج للتسوية التاريخية انما يبحث عن ترياق يمده بحياة لم تعد تهم احدا وكل ما يمكن توقعه هو تنازلات من دماء فقراء الشيعة ومقدراتهم توهب الى القيادات السنية التي تعيش في عزلة عن جمهورها من اجل اعادة الحياة لها دون ان يستفيد الجمهور السني من هذه التنازلات, اذ ان الطرف الشيعي كما تبين من تحركاته العلنية وتلك السرية المسربة على استعداد لتنازلات تتجاوز كل الفيتوات السابقة او الثوابت او الخطوط الحمر من اجل بقاءه في السلطة التي لم يعد قادرا على ادامتها بالطريق الطبيعي وهو الانجاز يقدمها الى افراد وشخصيات هم بدورهم في حالة من انعدام التوازن تجعلهم مستعدين لاجراء اي تسوية تعيد لدورهم الحياة وان كانت لا تعيد نازحا لداره ولاتحفظ كرامة احد من الانتهاك,وكل ذلك بديل عن اصلاح لابد منه.
ان محاولة تمرير (التسوية التاريخية) ضمن اطار الامم المتحدة امر خاطيء لاينبغي للمنظمة الدولية التورط فيه وهو لن يعطي الشرعية ,ولا يجب التماهي مع رغبات جماعات سياسية تملك المال والقوة بالتاكيد لكنها لا تملك مشروعا ولا تمثل قوى اجتماعية ولايمكن التعامل مع العناوين الكبيرة التي يقف خلفها صغار فقط لانها تتشبه بتجارب عالمية دون ان يملك مروجوها الحد الادنى من المصداقية السياسية بل والاخلاقية.
ان بلادنا في وضع استثنائي يحتاج معالجات خاصة, واذا اريد لمصالحة اجتماعية وسياسية ان تنجز فهي تحتاج الى ممثلين ذوي مصداقية للمجتمع مع مراعاة الاعتبارات السياسية والفكرية والجغرافية من خلال عمل هادئ وبطئ وعلمي يشرف عليه بعض من مفكري ورموز العراق الثقافية والعلمية الذين تمتلا بهم مشارق الارض ومغاربها, اذ رغم ان ذلك سياخذ وقتا طويلا لكنه سياتي بنتائج اكيدة لا تنجز مصالحة وطنية وانما تعيد تاسيس الوطن والدولة ..ان ما اعاق هذا المشروع هو كبار الجهلة في مواقع القرار الذين يعلمون ان لابقاء لهم عند اي تسوية تاريخية حقيقية.