الشهور الأولى كانت صعبة في بلد جديد، حيث ما تبقى من الجائزة لم يتعدَ 350 دولارا. أوضاع العراقيين صعبة فاغلبهم لا يعملون بسبب منعهم من العمل لأنهم أصبحوا منافسين للمواطنين الأردنيين، والأردن بلد يعيش مصاعب اقتصادية وسكانه في تزايد وليس لديه موارد كبيرة. العراقيون كانوا وربما ما زالوا غير قادرين على الحصول على إقامة، فكان مسموحا لهم البقاء ضمن تأشيرة الزيارة.
كان العراقيون يتعرضون لمشاكل في اقامتهم لذلك يظلون متوارين عن أبصار الشرطة الأردنية في البيوت التي تحتاج الى أدراج طويلة على الجبال المحيطة بوسط البلد. وكانوا يمسكون ويرمون على الحدود، ومن كان متقدما بطلب لجوء الى الامم المتحدة ولم يحسم موقفه ورمته الشرطة الأردنية على الجانب العراقي من الحدود فكان مصيره الاعدام. ومن خرج من العراق بشكل غير شرعي ولم يتعرض للنظام فإنه في الأقل يدخل السجن لسنين عدة.
من كانوا يعملون كانوا يعملون بسبب علاقة شخصية او تعاطف من أرباب العمل الأردنيين، ومنهم من عمل بسبب أجر أقل مما يدفع للأردني. وكنا نسمع قصصاً قاسية عن بعض أرباب العمل الجشعين الذين يقولون للعاملين العراقيين بعد أن يطالبوا بأجورهم “يعطيك العافية” دون أن يعطوهم أجورهم.
بعض الأصدقاء الشعراء كان يظن أني أملك مالا كثيرا من جائزة الصدى الاماراتية، فكان يبحث عن منقذ يوفر له بعض وجبات الطعام أو يحمل عنه عبء ايجار البيت. مرة أخذني أحد الشعراء للبحث عن مكان لي وله، وهو كان بغير عمل، فصعدنا درجا بمئات الدرجات، وبعد أن وصلنا أوحشني منظر البيت فكان عبارة عن كهف محفور في الجبل وما تبقى هو جداران يسدان فم الكهف المفتوح، فتركت البيت من الوحشة والخوف من العودة الى انسان الكهوف.
الأدباء كانوا بلا عمل. يعيشون من مقالاتهم ونتاجاتهم التي تنشر في مجلات المعارضة أو صحيفة الزمان، ومن كان يملك اسماً راسخا خارج إطار المحلية كان ينشر في الصحف والمجلات الأردنية. وكان بعض الأدباء العراقيون يحفر في جانب آخر، وهؤلاء هم الأدباء الذين لم يصرحوا بموقفهم السياسي ضد نظام صدام خلال تواجدهم في عمّان، فكانوا يكتبون ويتخصصون في الكتابة عن الأدب الأردني، فهذا كان يضمن لهم فرصة العيش ويجعل العودة إلى العراق ممكنة.
دخلت البيوت التي كان يعيش فيها العراقيون فأحزنني المنظر حيث ينام في الغرفة خمسة أشخاص أو أكثر لكي يدفع كل واحد منهم ما يقارب العشرة دنانير (أي ما يعادل 15 دولارا). البيت كان يحوي ربما عشرين فردا جلهم من المتجاوزين على الاقامة ومن المؤهلين للرمي على الحدود العراقية الأردنية. أما القلة القليلة من العراقيين الذين يعملون في الغناء والموسيقى والفنون التشكيلية فكانوا أفضل حالا حيث الفنادق والبارات وقاعات الفنون تفسح لهم مجالا أكبر.
في ظل هذه المشاهدات كنا نسمع قصص التجاوز على الاقامة وقصص عن السفارة العراقية في الأردن حيث كان لديها القدرة على القبض على بعضهم وأخذهم في صناديق السيارات والذهاب بهم الى بغداد لكي يعدموا بعدها. أو أن هناك بعض المرتزقة “الزعران” الذين كانوا يعملون لدى السفارة العراقية مقابل بعض المال، حيث كانوا يدفعون الى اختلاق معارك في أماكن منزوية وضرب المعارضين بأمواس الحلاقة والهرب.
في ظل هذا قابلت في الساحة الهاشمية واحدا من الشعراء، وكان اسمه على ما أذكر هاني إبراهيم العاشور، وكان موفدا الى هناك، وكنت لم أزل بعد لم أتقدم بطلب اللجوء الى الامم المتحدة. فكان هذا الشاعر يدفعني وصديقا معي الى العودة ويحذرني من البقاء ناصحا إيانا أن الحياة صعبة في الشتاء وإن مرضنا فمن يشتري لنا دواء، ومن يساعدنا على كسب قوتنا، والحياة صعبة حيث لا عمل في هذا البلد لنا. كان ذلك ونحن مقبلون على الشتاء مثل هذه الأيام، وشتاء عمّان بارد لا يرحم الغرباء.
من الجانب الآخر كان شيء يجعل حياتنا صعبة، وهو تعاطف وحب الأردنيين لنظام صدام وبشكل أشد الفلسطينيون – الأردنيون. كانت هناك أسباب لهذا التعاطف، ومنها أن الكثير منهم عروبيون يميلون لمواقفه القومية التي تقارع الهيمنة الأميركية في المنطقة، ومنها المنفعة الاقتصادية؛ إذ أن الأردن كان يعتمد بشكل كبير على النفط العراقي الذي يعطى له، فنصفه مجاني والآخر بنصف السعر العالمي للنفط، ومنها أيضا تبرعه بمليار دولار سنويا لفلسطين في سنوات الحصار على العراق.
كان محزنا لنا أن لا نستطيع التصريح برأينا حتى في مكان ينبغي أن نكون فيه أحرارا. وقد حصلت مشاكل مع الناس هناك بسبب أننا كنا نتحدث فيما بيننا ضد صدام. فمثلا وصلنا الى مشاجرة مع سائق تاكسي لأني وأصدقائي كنا نتحدث ضد صدام.
دخلت الكثير من بيوت أصدقائنا الأدباء الأردنيين وظل هذا الموضوع موضوعاً حساسا لا نستطيع الخوض فيه معهم، لأن هذا سيؤدي حتما إلى الاصطدام. منهم من تعاطف مع عذابنا وكانوا قلة قليلة، فصاروا أعز الأصدقاء، ومنهم من ظل يعتبرنا خونة وضالين واكتفى بالصورة التي تأتيه عبر سياسة النظام الخارجية التي كان نظام صدام يحرص على تجميلها كثيرا.