صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

تظاهرة في عمّان عام 2000

شجعني على كتابة هذه الذكريات رغم أنها ليست الذكريات الأكثر إيلاما تلك التي مرت بالعراقيين عبر عقود أقول شجعني أن أكتبها سببان أو ثلاثة، فهي ترياق قد ينفعني اليوم وقد أصبحت كثير النسيان، فقد نسيت أسماء الناس الذين عرفتهم والآن انسى من يطلب مني طلبا في اليوم ذاته

شجعني على كتابة هذه الذكريات رغم أنها ليست الذكريات الأكثر إيلاما تلك التي مرت بالعراقيين عبر عقود أقول شجعني أن أكتبها سببان أو ثلاثة، فهي ترياق قد ينفعني اليوم وقد أصبحت كثير النسيان، فقد نسيت أسماء الناس الذين عرفتهم والآن انسى من يطلب مني طلبا في اليوم ذاته. ثم أني أريد الوفاء للتجارب والمدن والناس الذين أحسنوا إليّ عبر نحو عقدين مرا، فضلا عن إعجاب الكثير من الأصدقاء بهذه الكتابات فرأيت الاستمرار بها.

 

بعد يوم أو يومين من تجربة وجودي في الحزب الشيوعي الأردني دعاني جهاد هديب وحسن جلعاد إلى الذهاب معهما ففعلت لأني أردت أن أكتشف البلد. كانت هناك تظاهرة ضد الحكومة التي لم تحرك ساكنا في تعيين ذوي الشهادات العليا الجدد وكان جلهم عاطلين عن العمل. يبدو أن حملة الشهادات العليا العراقيين أزاحوا الأردنيين بسبب أنهم يوافقون على أجور أقل ما يريح الجامعات المملوكة للرأسماليين.

 

التظاهرة لم ترفع في الحقيقة أي شعار موجه ضد العراقيين. ثمة حياء تخلل هذه المسيرة. المهم أن رؤية تظاهرة لم يألفها الإنسان العراقي لعقود، وعند وجودي فيها، أخذني إحساس جارف بالدهشة والفرح الذي تخلل كل أصقاع روحي. هناك استعادات تصبح ضرورية لكل العذاب وكبت الأفكار والمشاعر التي أجبرنا عليها نظام صدام. لم أتذكر أي تظاهرة طوال حياتي التي قضيتها في العراق منذ الستينات إلى يوم خروجي عام 2000. تعرفت إلى مجموعتين من الشباب الشيوعيين في أيام الدراسة مجموعة من الصعاليك الذين كانوا ينتمون إلى تنظيم الحزب الشيوعي العمالي. تعرفت إليهم بعد خروجهم من السجن وكانوا يريدون كسبي إلى تنظيمهم، بطرق غير مباشرة، لكني كنت واعيا لذلك وكتوماً لتاريخ والدي عنهم، وهم لم يعرفوا أني مثقل بالخوف منذ طفولتي. كنت أفيد منهم عبر المصادر الماركسية التي يجلبونها لي وأيضا كانوا صعاليك وهم يتجولون في بغداد ما يجعل وجودي معهم ممتعا.

 

بعد خروجهم من السجن من المؤكد أنهم كانوا تحت الرقابة إلى أن أثبتوا أنهم من المثقفين الفوضويين الذين لا يشكلون خطرا على نظام صدام القوي. مجموعة أخرى من الشباب المسيحيين الذين كانوا محملين بفكرة العدل الاجتماعي والحرية، أيضا، تعرفت إليهم عبر صديقي الذي كان يدرس معي الكهرباء في الجامعة التكنولوجية. عماد حنا الذي رحل ربما إلى أستراليا فيما بعد عرفني على اثنين أو ثلاثة منهم وهؤلاء الشباب نشروا أفكارهم الالحادية في الكنيسة تلك الأيام حتى شعرت الكنيسة بالخطر، ويبدو أن هناك من وشى بهم إلى المؤسسة الأمنية. عرفني عماد إلى شاب قوي الإيمان بأفكاره اسمه أثير الذي تبين لي فيما بعد أنه قائد تنظيمهم الطلابي. كان أثير يأتينا إلى الجامعة ويتحدث في البداية إلي عن الشعر الذي يمكن أن يكون المدخل المحبب إلي لكي يكسبني. كنت آخذ منه الكتب وأقرؤها وكنت أتبادل معه الأفكار والمفاهيم الماركسية. التقينا عدة مرات ولم يقل لي عماد ولا أثير أنهما شيوعيان لكنهما يحاولان أن يثيرا مواضيع ثقافية وسياسية ويتداولان معي الممارسات الظالمة لنظام صدام. مرة أخرى رأيت فيها أثير وأعطاني ديوان عريان السيد خلف “كبل ليلة”. وضربنا موعداً الأسبوع المقبل لكي نلتقي. هذه المجموعة كانت أيضاً تحاول كسبي ولم أعلمهم بأني أرفض الانتماء إليهم وأني على معرفة بالحزب الشيوعي منذ طفولتي.

 

جاء يوم التقائي بأثير وذهبت إلى بوابة الجامعة التكنولوجية منتظراً إياه لأكثر من ساعة. كان ذلك الصباح ممتلئا برذاذ المطر، وكانت بي رغبة للحديث في الثقافة والهموم الإنسانية لكنه لم يجيء. عدت إلى الجامعة وحضرت المحاضرات. في الليل وأنا في البيت طرق الباب ونادى أهلي أن هناك من يريدني في الخارج. خرجت فإذا بأخ صديقي عماد حنّا الأصغر يسألني عن عماد وكان الوقت متاخراً جداً “هل رأيت عماد في الجامعة؟” فقلت “لا لم أره اليوم” فقال إنه لم يعد وإنهم سمعوا أن رجال الأمن أخذوه هو وأصدقاءه.

 

فيما بعد علمت أن المجموعة سجنت وأن أثير أعدم لأنه كان مسؤول التنظيم الطلابي.

رثيت أثير بأول قصيدة موزونة لي:

وكان يغني

لشمس تناسته

أغفت بعيدا

وكان يسافر يبحث عنها

إلى أن أنهي القصيدة بـ:

وكان يسافر يبحث عن شمسه

ولكنه حين أمسك أهدابها

أثقلوا دمه بالرصاص

 

أحزنني كثيرا خبر إعدام أثير وبقية الأصدقاء. هؤلاء الشباب الرائعون ذهبوا ضحية إجهارهم بحاجتهم إلى الحرية والعدالة ولقمة الخبز الكريمة.

 

كان شعوري بالفخر أني وسط تظاهرة.. تجربة روحية عظيمة وأنا قادم من تاريخ من الكبت والحرمان السياسي والخوف، وكنت لحظتها محملا بتوق كبير إلى أن اشارك مع الواقفين في التظاهرة، فسألت حسن جلعاد هل أستطيع أن اقرأ قصيدة.. فقال لي: ربما تسبب لي بعض المشاكل مع المؤسسة الأمنية في الأردن. للآن ما زال الضوء الذي يلمع على حروف تلك اللافتات واخضرار العشب الناصع الذي كان يحيط بالمتظاهرين يمتلئ بالندى.

 

كنت مثقلا بكل رغبة الافصاح عن القصائد التي كتبتها ضد صدام ونظامه وعشت خائفا لأني قرأتها لبعض الأصدقاء الذين لم أضمن أنهم سيخبرون عني إن ساءت علاقتي بهم لأي سبب. قصائد مثل ما كتبت في بداياتي عن احتفال صدام المبهرج بعيد ميلاده في بدايات التسعينات أو في نهاية الثمانينات:

الكؤوس السود لك

والدروب السود لك

فاحتفل واملأ كؤوسك

كل هذه المرارات كانت تصعد مع نبض القلب وأنا أعيش تجربة أن أكون في تظاهرة مع من يرفعون اللافتات من أجل عيش فيه كرامة للإنسان ودفاع عن حقوقه في العيش على هذه الارض وأقف معهم دون أن تنهال عليهم رصاصات رجال الأمن. هذه كانت ثاني تجربة تشعرني بالسعادة بوجودي في عمّان.

 

إقرأ أيضا