تلخيص الطهطاوي وتخليصه

رفاعة رافع الطهطاوي (1801-1873) هو الأزهري الذي أرسله محمد علي خطيبا وواعظا مع إحدى البعثات…

رفاعة رافع الطهطاوي (1801-1873) هو الأزهري الذي أرسله محمد علي خطيبا وواعظا مع إحدى البعثات التي كان يرسلها إلى فرنسا لجلب العلوم النظرية والعسكرية إلى مصر التي أراد لها أن تكون دولة عصرية وقوية. وهو يعرف أنه لا سبيل إلى تلك القوة بغير العلوم العسكرية التي بلغ فيها الغرب مبلغا متقدما لم تبلغ مثله الدولة العثمانية في ذلك الوقت.

 

اتجه الطهطاوي إلى تعلم اللغة الفرنسية، وإلى الترجمة منها ليعود بعد خمس سنوات (1826-1831) من البعثة واحدا من أهم الدعاة إلى التحديث. ولكن بالفعل أكثر منه بالقول. وإن كان بالقول ترك كتابا مهما في سياق التعريف بالآخر وهو “تخليص الإبريز في تلخيص باريز” الذي سأخصص له هذه المقالة. أما لماذا هو واحد من أهم الدعاة للتحديث بالفعل، فذلك لأنه، كما تقول سيرته، قام بأعمال جليلة في هذا المجال، من بينها أنه اشتغل في مدرسة الطب وترجم الكثير من الكتب الطبية. وبهذه المناسبة أذكر أنه احتفى كثيرا في تخليص الإبريز باللغة الفرنسية قائلا: إنها لغة سهلة لا تحتاج وأنت تقرأ كتابا فيها إلى كتب أخرى تشرح الكتاب وتوضح ما غمض فيه لأنها أصلا لغة واضحة لا غموض فيها وإنك تستطيع أن تقرأ كتب الرياضيات والطب وغيرها من دون أن تجد صعوبة فيما تقرأ.

 

افتتح الطهطاوي مدرسة الألسن سنة 1835 وأنشأ فيها أقساما لترجمة الرياضيات والطبيعيات والإنسانيات. وأشرف على التعليم فأنشأ مدرسة المحاسبة ومدرسة الإدارة. وأشرف على الصحافة فأصدر جريدة الوقائع بالعربية بدل التركية.

 

وكل هذه الأعمال كان لها أثرها الكبير في حركة النهضة المصرية. ولم يكن لها ذلك الأثر لولا أنها تمت بإشراف مباشر من الدولة وبرعاية كاملة من محمد علي والخديوي اسماعيل فيما بعد. حتى أن الطهطاوي لم يتمكن من فعل شيء عدا ترجمة رواية تليماك لفرانسوا مورياك في عهد الخديوي عباس الذي لم يكن على وفاق معه ونفاه إلى السودان. فلابد من أن تكون الدولة راعية لما يتطلبه تقدّم البلد من حركة ثقافية وعلمية، وداعمة لهذه الأخيرة بصورة مباشرة، كما حصل مع الطهطاوي. وهو ما لم يحصل مع عدد كبير من المفكرين والمثقفين الذين عادوا من البعثات فلم يجدوا من يهتم بهم ولم تجد دعواتهم غير العداء الصريح، كما وقع لطه حسين الذي فُصل من الجامعة إثر كتابه “في الشعر الجاهلي” وما تضمنه من دعوة إلى الشك والجرأة العلمية وتطبيق ذلك حتى على أشد الأمور قداسة.

 

ومن جهة أخرى، وما دمتُ ذكرتُ طه حسين، فلعل هناك سببا غير مباشر، وراء قوة أثر الطهطاوي في حركة النهضة العربية، أو سببا غير السبب التاريخي الذي تلاقى فيه وعي السلطة مع وعي المثقف ورغبته في الإصلاح والتغيير، أعني به نوع الخطاب، أو شدته لا فرق كبير. فقد ورثنا نوعين من الخطابات أو الأصوات الداعية إلى النهضة والتحديث من خلال النظر إلى ما عند الأمم الأخرى، وخاصة الغرب أو الإفرنج كما كانوا يسمون، والإفادة من بعض جوانب حياتهم أو كلها. والصوتان هما الصوت العالي الذي يريد تحديثا جذريا وكليا، ويصرح بذلك، ومثاله طه حسين الذي سبقت الإشارة في هذا المقال إلى كتابه في الشعر الجاهلي وما أحدثه من ردود أفعال غاضبة من الأزهر ومن رجال الدين.

 

أما الصوت الثاني فهو الهادئ. والهدوء سمة تأتي من عدم مصادمة المجتمع والقرّاء بما هو غير مألوف لهم فيما يتعلق بالثوابت الدينية والثقافية. وكل ما يريده الكاتب، وهو الطهطاوي هنا، هو الإفادة مما عند الآخر الفرنسي من تقدّم على مستوى السلوك والمكتشفات العلمية. فما لدى الآخر عند الطهطاوي يُقسم على قسمين؛ الأول: هو الدين والقيم. والثاني هو العادات والسلوكيات والمخترعات. والآخر على مستوى القسم الأول لا يستحق إلا الذم وإلا التنبيه على أنه خاسر آخرته، فقد ضل عن الدين الصحيح وهو دين الإسلام، وحتى من ترك الإسلام من المسلمين بسبب عيشه في الغرب فهو أنموذج مزدرى عند الطهطاوي. وكذلك الأمر فيما يخص القيّم، فالغربي منقاد من المرأة أيا كانت جميلة أم قبيحة وهو ساع إلى اللهو بكل سبيل ولا يعرف الكرم الذي يُعرف به العربي. يبقى القسم الثاني مما لدى الآخر وهو المخترعات والمكتسبات الحضارية السلوكية وهذه يتوصل إليها الإنسان بالإفادة من تجارب الآخرين وتطويرها والإضافة عليها. والقسم الأول أساسي وثابت فيما الثاني ثانوي ومتغير. وإذا توفر الأول أي الدين والقيم سهل الوصول إلى الثاني.

 

سوف ينتج عن الصوت الهادئ كتابة أقرب إلى الموضوعية والوصفية والتسجيلية التي لا ترى في ما يمر عليها من المظاهر والسلوكيات الحضارية المختلفة ما يستحق الانبهار والدعوة إلى التقليد. هذا على مستوى الكتابة وعلى مستوى المضمون فكل شيء قابل للنظر والنقد والتمييز وهذا النقد يقوم على مؤلف متصالح مع ثقافته ومعتقده ومع محيطه وقرائه الذين يرى فيهم جماعة بشرية لا تنقصهم الحكمة أو العقل وإنما تنقصهم التجربة وليست التجربة كما ينقلها في كتابه سوى ممارسات وعادات يمكن تحصيلها بسهولة.

 

لقد كان هذا النوع من الدعوات إلى الإصلاح أبعد أثرا في النهضة العربية لأنه لم يكن يخرج عن عباءة الحاكم أو وصايته ولأنه لم يكن يصادم ثوابت المجتمع الدينية ولأنه كان يقدم تصوره للتحديث على أساس قاعدة موجودة وراسخة ولا تحتاج إلى تغيير وهي الدين والصحيح والقيم الأساسية السليمة التي إن وجدت عند الأمم الأخرى أو الإفرنج فذلك يحسب لها وإن لم توجد فإنه يعاب عليها. هذا فيما لا يعيب الطهطاوي في تلخيص الإبريز، على المصريين عدم معرفتهم بما عند الغربيين من علوم حديثة أو قوانين أو دستور أو أساليب العيش والأكل والتعامل، أو على الأقل هو لا يصرح بذلك.

 

ويبدو أن سيرة الطهطاوي وتجربته تقولان لنا إنه ما من سبيل إلى أي إصلاح لا يمر عبر الدولة وعبر قناة رجال الدين أو المنتمين إلى الحاضنة الدينية التقليدية، التي تحاول أن تحقق الإصلاح الجزئي أوالتوفيقي الذي هو خير من الانحدار إلى الظلام التام.

 

إقرأ أيضا