(ليس هناك من يجرؤ على أن يكتب اعترافه على الورق) لورانس داريل
1
ما معنى أن يحتفظ بعضٌ من أفقر المثقفين وأضعفهم حالاً وأكثرهم إبداعاً برأسماله الأخلاقي: بياض الكلمة ونزاهة الموقف؟ هل كان عليّ أن أتجنب كلمات (قد) تسيء إلى المعنى؟ ربما، إلا أن المعنى يقتضي أن نكتب عن الحقيقة النقدية المجردة أو الغائبة المغيبة، لقد كانت عبارة الفيلسوف اليوناني سقراط: (أعرف نفسك) تطالبنا بمعرفة النفس وتجربة النظر إلى المرآة، مثلاً، تصبح بهذا المعنى ضرباً من ضروب هذه الحكمة من خلال تجربة وجودية ذاتية، روحية معرفية أو نقدية تقودنا وتقربنا من تلمس الملامح الحقيقية للذات الإنسانية، وهي تجربة إنسانية، أيضاً، تنطوي على ديالكتيك علاقة الأنا بالآخر.
يمكنك أن تنظر بطريقة جانبية أو تختلس النظر أو تنظر بعين واحدة دون أن تغلق الأخرى، يمكنك أيضاً أن تكسر المرآة، ما الذي يمكن أن يحدث لو أنكسرت المرآة؟ هل تجرؤ على النظر المباشر إلى المرآة ثانية، ولو لمرة واحدة فقط؟ كيف نهرب من المرآة؟ كيف تفسّر المرآة ما كان يحدث في السر والعلن؟ أن واحداً منا قد أخفى أو روى للآخر تلك الحكاية، وأعني الجريمة الثقافية الغائبة، المرآة نفسها يمكن أن تنكسر، هذا ما تقوله البداهة، كنت أقف خجلاً أمام المرآة، صرت أتحسس ملامح وجهي متوهماً أن العمر لم يمر بعد وحين أمد يدي إلى ملامحي، ثانية، لا أعثر على وجهي، لقد استردها شبيهي بمنتهى اليأس، صار عليّ إذاً أن أسترد ملامحي الأولى، هكذا تقول البداهة الموازية للذات البشرية أيضاً، هناك مرايا عديدة يمكنها أن تعيدك إلى تلك النقطة الأخيرة المتصلة بتلك المتاهة الحقيقية لملامح الإنسان، هذا ما قاله الفرنسي جان جنييه: (المرآة، تماثل بين حالة الإنسان في الواقع وحالته في المتاهة) وبسبب الزيف والكذب، المتاهة والنزعة التبريرية أو النقدية الراعشة التي تديم العلل، سأرتدي، ثانية، ثوب الصراحة في القول أو الكتابة، كما أن الإحساس بالموقف الفكري ـ الإنساني والحرص عليه سمة مرتبطة بالقيم الأخلاقية المتماهية مع الكتابة النقدية، ونحن هنا لا نمارس التشويه والتسقيط والنكاية أو الشتيمة على الرغم من تقاطعنا مع عبارة سارتر المتصلة بالشتيمة: (لغة إنسانية ذات قيمة كبيرة ولا يجوز منحها لمن لا يستحق).
2
هل يمكن أن نفكر في الأسباب الموضوعية التي تصنع ثقافة التوبة لدى المثقفين بعيداً عن حكم القيمة الأخلاقي؟ ذلك ما سنحاوله في هذه المقالة.
تُعرب الظاهرة “ثقافة التوبة” إياها عن نفسها في شكل اعتذار متواتر أو شكلي لنمط من النقد الشخصي يفيض عن أية ممارسة كتابية أو أخلاقية محتملة من جنس تلك التي تُجند أحداث وتفاصيل وموضوعات ذلك النقد الشخصي الموازي لعملية التصحيح المعرفي النقدي لمنطلقات الفكر وممارساته المتنوعة، إنه اعتذار عن جرم ثقافي اقتُرف في ما مضى، ولا يزال قائماً. لا يكتفي التائبون من المثقفين على اختلاف مِللهم ونِحلهم من إشهار نصل الفتك بماضيهم الثقافي وبما كان عليه أمرهم في الكتابة والموقف، ثمة من يقول: لقد أكرهني النظام الغارب على ذلك وكل تائب أنَّبه ضميره على فعلٍ ما ارتضته نفسه على سلوكه واقترافه.
التائبون اليوم، ينتقلون من ماضٍ مثخنٍ بأسباب الفشل والخجل والعار إلى حاضرٍ مشغول بمحاسبة الضمير فالذي رقص في ذلك العهد يفكر في نقد حركاته وسكناته أو يفكر في التخلص من الأوهام التي قادته إلى الدخول في حفلة الرقص وسيجد فيها العجب العجاب، والانتقال المفاجئ للمثقف التائب يجعله كثير الحياء، خصوصاً وهو يقول في كتاباته الجديدة أنه اختار دوره الجديد (الملتبس ـ المستعاد) لشعوره بتأنيب الضمير ليقدم نفسه مجدداً وبلا خجل على أنه صاحب رسالة وموقف وأخلاق، ولكنه بهذا الأسلوب يكرر في الحاضر ما ادعاه في الماضي فمثلما كان بالأمس داعية للفكرة التعبوية العقائدية القادرة على تجييش الناس فانه اليوم فقيه مستشار الحاكم الذي يؤجر لسانه وقلبه وقلمه للحصول على مالٍ أو جاه أو حتى نفوذ ومنصب فقد تغير المعنى وظل المبنى على حاله أو ظل في الحالين يقدم نفسه مبدعاً وكاتباً أسطورياً.
لم تخرج هذه الظاهرة من الفراغ، بل من هشاشة الفكر ومن غياب تحصيناته الأخلاقية والإنسانية، المعرفية والنقدية. هناك من قال في تبريراته الزائفة أو اعتذاراته المخجلة: الفاقة والحرمان هما اللتان صنعتا هشاشة الفكر وزجا بالمثقف في زمرة المطبلين على الرغم من أن الكثير ممن يريدون التوبة كانوا في حالٍ من اليُسر “المادي والاجتماعي والمعنوي”، تحميهم من الخوف ومن التحول إلى فيالق السلطة الجديدة حتى بعد اندحار قائد الفيلق الضرورة وجفاف مصادره المالية لقد تبين لنا الكثير ممن لا يجد حرجاً أخلاقياً في أن يعمل تارة مع (علي) وأخرى مع (معاوية) أو ينتقل بحرية وبلا خجل أيضاً من موقع سياسي وفكري وثقافي إلى آخر ومن صحيفة ومجلة ومؤسسة إلى أخرى كما ينتقل من مدينة إلى مدينة أو يبدل قميصه الأحمر بآخر أخضر أو أبيض وربما عمامة، وثمة من قال أيضاً: الإكراه السلطوي والخوف والعوز وهنا لا نريد أن نبرر نسق الخوف وجبروت السلطة أو طبيعة العوز الذي نشأ ونما داخل التركيبة النفسية للمثقف العراقي والتي تتعرض اليوم، للانهيار والتداعي بعد أن انفصل الأخلاقي عن المعرفي لكننا نميل إلى البدائل المتاحة وأهمها الصمت الذي هو بمثابة الموقف أو الحاجز النفسي بين الفكر والضمير بحيث يتوقف عن المشاركة بشكل أو بآخر، مع السلطة، ولا يجند وعيه من أجل معاركها وعقائدها وأكاذيبها وهكذا تبقى الأخلاق ما بقي المثقف على صمته، وأعني موقفه وأخلاقه، أو ما بقيت الثقافة على دلالاتها الحضارية كأداة تقدم خدمات معرفية وإنسانية وحضارية.
ثقافة التوبة اليوم، في أعلى مراحل الانفصام الثقافي والانفضاح الروحي والنفسي لدى هذه العشيرة الكبيرة من المثقفين الرحل الباحثين عن الماء والكلأ والنشر والطبع والجوائز والمهرجانات السنوية أو الجلسات الأسبوعية، فهل يمكن للمثقف أن يعيد لحظة الاختبار أو الاختيار المثلى للثقافة الحقيقية وأن يكون مثقفاً حراً، يبدو أننا خرجنا من هذا الاختبار بخسارات فادحة وأعترافات ـ اعتذارات قليلة وأن قسماً من المعترفين أو التائبين ما زال يقاوم عقائده وانكساراته وانهياراته الأخلاقية بالمعنى الشخصي البحت، إذن ها هي الأخلاق إذ تعيش اليوم ضموراً في الجسد الثقافي فهل صدق الشاعر أحمد شوقي الذي طالب أو تماهى بين بقائها وبقاء الأمم؟
3
مع الجرائم الثقافية العنيفة التي حدثت، منذ 35 عاماً، في العراق تصدعت وجوهاً ومؤسسات وأسماء وغابت الحقائق أو الوقائع الكثيرة، وتكلس المثقف العراقي الحقيقي المتحرر بسبب الإقصاء المزمن لدوره المعرفي والتنويري، وبالمقابل تضخمت عقلية المثقف العقائدي السلطوي والطارئ وتبددت الحقائق والمواقف والكتابات من بطش النظم العسكرية والايديولوجية المختلفة وسار الكثير من المثقفين على درب تمجيد سياسة الصوت الواحد والقائد الأوحد، واليوم، إذ نعيش تراجعاً في الأخلاق والموقف وضموراً في الجسد الثقافي العراقي، كما أسلفت، وحيرة في الكلام النقدي وقلقاً وتلعثماً في العبارة بعد أن ضاقت الدلالات، ثمة التباس ومكابرة في العبارة تقابلها ممانعة في اللفظ الصريح وليس المباشر السطحي، هذا هو موضوعنا الثقافي الراهن على وجه الحصر، وثمة من يصر على تعطيل حاسة النقد والرؤية والكلمة المتحررة فيرتجل مقالة هنا أو هناك مليئة بالشتائم والمفارقات، وبعضٌ يصر على جرائمه ولا يفكر بالتوبة أو الاعتذار وبعض يقدم، مرة أخرى، قلمه للسلطان الجديد ابتغاء مَرضاته وعطاياه والتماساً لهروبه من الماضي القريب أو من مواقفه المخجلة وجرائمه الثقافية، هذا التكاثر الطفيلي لهذا البعض المستعاد من المثقفين الباحثين عن ضفة أمان أو عن حلّ سهلٍ يتقاضون عنه اتعابهم المادية ومواقعهم الوظيفية الجديدة ولا يضيع عند هذه المؤوسسة (الثقافية) المملوكة أو عند هذا العقائدي القديم أو الجديد وأشباههم أجر “المحسنين” وهمٌ، أعني الباحثين عن ضفة أمان، بذلك التكاثر الطفيلي والتناسل الغرائبي الكثيف يرفعون تلك الأسماء العقائدية المستعادة إلى مستوى النجوم في الثقافة والموقف والأخلاق.
ينجز المثقف، التائب أو الذي لا يفكر بالاعتذار ويخجل منه، من توسُّل المعرفة إلى تسوُّل السلطة الجديدة بكثير من الادعاء وقليل من الحياء، لا يجرؤ أن يقول لنفسه أو لقارئه الجديد أنه أختار دوره التعبوي ـ العقائدي المستعاد لشعوره بالخوف أو بمصلحته الشخصية، فهو لم يكن يطمع، في ما مضى من أدوار، إلى أكثر من الشعور المريح بأداء الواجب العقائدي التعبوي المتصل بثقافة الصوت الواحد، وحتى في الأحوال التي يقع فيها تحت وطأة الشعور بتأنيب الضمير، وهي نادرة أو غائبة تماماً، وهي في سلوكه وأخلاقه ومواقفه السابقة ورمٌ خبيث وفِعلٌ شائن ممجوج، لم يكن يطمع إلا في رضا القائد الضرورة الجديد وثنائه، أما اليوم فهو لا يقبل من دورٍ ـ وظيفة تأجير اللسان ـ المداد أقل من ثمنٍ مُجزٍ يبرر (تضحيته) الجسيمة بالتخلي، مجدداً، عن قارئه وأخلاقه ومواقفه، من هنا يُدخِل أهل خطاب التوبة بضاعتهم الثقافية المستهلكة، أعني نفاياتهم، مجال السوق الثقافي العقائدي المستعاد فيتقاسمون مع أهل التجارة قيمهم مع حفظ الفارق بين أخلاق الفريقين.
وفي هذا المقام تحضرني هذه الإشارة التأريخية المقاربة للراهن: (في شذرات الذهب في أخبار من ذهب للعماد الحنبلي/ص64 ـ ج1 وكان أبو هريرة يصلي خلف علي ويأكل من سماط معاوية ويعتزل القتال ويقول: الصلاة خلف علي أتم وسماط معاوية أدسم وترك القتال أسلم وقد أورد هذا الخبر كذلك برهان الحلبي في السيرة الحلبية/ص397 ـ ج3) .
4
بعضهم، القلة النزيهة النادرة “الأقلية الهائلة”، أبى أن يقايض على مواقفه وأخلاقه وكرامته وارتضى أن يعيش أقسى المنافي أو المعتقلات وأشد أنواع التهميش أو المهانات في بطنه ومسكنه، ملبسه وإقامته ليحفظ نظافة روحه وعقله، لسانه وقلمه، أما الآخر، الراقص في كل الأوقات، فآثر الحل الشخصي، المتصل بحرباوية نادرة، على حلٍ عام يأتي ولا يأتي وعَرَض نفسه وقلمه ولسانه على الدولة العقائدية الجديدة وعلى الحاكم الجديد وصحابته، سادته وآل بيته الكرام، وهكذا دخل خطاب المثقفين عصر ترتيل التوبة والندامة والاعتذار عن كل شيء من أجل أي شيء.
كانت أغاني الحروب واحدة من تجليات قائد فيلق الثقافة العراقية وأبواقه، ونتاجاً لا أخلاقياً لشعراء المعركة ودواوينها الشعرية، وعلى الرغم من أن (البعض) من (نقاد) أو (مؤرخي) أدب قادسية صدام ـ أم المعارك وملحقاتها، اصطلحوا على تسمية هذه الأغاني بـ (أغاني وطنية) فإنها لم تكن نوعاً جديداً من أنواع التزلف والابتذال أو الانحطاط المكتوب، أيضاً، بلغة القصة والرواية والقصيدة (الحديثة والشعبية) واللوحة والنحت والنقد، ومن المهم أن نلاحظ أن العدد الأكبر من هذه الكتابات والفعاليات والمهرجانات التعبوية كانت في أصلها زائفة ومع هذا فقد عاد أغلب أبواق النظام الغارب من جديد لهذه الواجهة الإعلامية أو تلك، طوى الماضي، بمنتهى الوقاحة، وبدأ مع الحاضر بلسان جديد أو بثياب جديدة وبعقليته وانتهازيته الأولى، أية بيئة ثقافية هذه؟ البيئة الثقافية المريضة الزائفة والمثقلة بالمتزلفين والعقائديين، الراقصين والمتلونين والتي لا تملك تقاليد ثقافية وأخلاقية متمدنة لا تنتج إلا أدباً تافهاً ولا تلد إلا المسوخ والجراء.
غاب الكاتب المتحرر بعد أن طوّف في انحاء وطنه وانحاء العالم، مرغماً حيناً، مشرداً حيناً، أو صامتاً ومُبعداً متخفياً وليس أبداً سائحاً، وبعد أن عاد من تطوافه، في المنافي، إلى وطنه ثانية مقرراً الصمت المشبع ببلاغة الرأي، غاص في العمق من آلام الروح واليأس وفي الحين نفسه ظل محتفظاً بالروح النزيهة بعيداً عن الادلاء والعقائديين الجدد . إذن، إنكفاء وغياب الكاتب احتجاج، وصمته احتجاج، وموته، مهملاً منسياً، احتجاج، ظل هو هو ذلك الكاتب الذي كان، في الموقف والكلمة، وعلى طول الرحلة، بين القول والسكوت، كان يبدو مقبلاً على الحياة والجمال والمعنى، يكتب بصدق في مكان يمجد الكذب.
إن مكر الراهن أو التأريخ البعيد قد جعل الآن هذا التغيير المنشود في أدراج المستقبل البعيد جداً، وفي حال كهذه، يتضاعف ثلاثاً ألم الكاتب المتحرر والأعزل، فمشكلة كاتب بهذه الصفة لا تماثلها في الألم مشكلة أخرى، لهذا كان على الكاتب المتحرر ألاّ يدع الأحزان ـ الآلام تقهره وألاّ يقع كما يرى الكاتب الألماني توماس مان في: (خطأ عظيم حين يظن أن في مقدوره أن يقطف ورقة صغيرة واحدة من شجرة الأدب أو الفن، شجرة النار دون أن يدفع حياته ثمناً لها) وها هو الكاتب المتحرر، ثانية، يتقدم مفادياً ليدفع حياته ثمناً لأدبه وكتاباته ومواقفه، وأنها لمفاداة تدعو إلى التذكر والتأمل والتقدير لا للاعجاب أو الفخر.
في الجهات الأربع من كرتنا الأرضية، التي في أيامنا هذه، تميل إلى جعلنا في المحبطين اليائسين، لكننا لن نيأس، وسنظلل نكتب ونردد، ومن الصميم: (مباركة هي الحياة) حياتنا، حتى في مدْلهمّ الغاشيات من فوقنا ومن حولنا.