معلوم أن الرومانسية في فرنسا متأثرة أبلغ تأثر بالرومانسية الألمانية، فمنذ أن دعت إليها مدام دي ستال* (1766- 1817 ) كشفت بدعوتها لبني وطنها موردا لجميع الرومانسيين من الفرنسيين. ولا يعني هذا أنهم كانوا مجرد مقلدين كسابقيهم من الألمان، وإنما تفتحت مواهبهم بهذا التأثر الذي لا مناص منه في تبادل التيارات الفكرية العالمية.وعلى الرغم من أن مدام دي ستال، لم تكن تهدف أساسا إلى إلغاء الأدب الكلاسيكي*، بل إلى تطوير الذوق الأدبي السائد، فإنها قدمت للرومانسيين المنطلقات الموضوعية التي بنوا عليها أدبهم، ويعد ما نقلته في كتابها “عن الأدب” الصادر عام 1800 المدخل المباشر للأدب الرومانسي الفرنسي.أما في كتابها الثاني عن “ألمانيا” الصادر عام 1810 فعرض أدبي أمين ومشوق لمجمل النشاط الفكري والفني الذي عرفته في ألمانيا وخبرته وتذوقته وفيه غنى إنساني وروحي واسع وعميق.
وكان لإقامتها الطويلة في ألمانيا، تأثير بعيد المدى في نصح الشعراء الفرنسيين بدراسة الأدب الألماني، ولا بأس من تطعيم الأدب برحيق أكثر قوة لان الكتاب الألمان أكثر الناس ثقافة وأشدهم تأملا في أوروبا بأسرها.ولم تكن فرنسا بحاجه إلى مدام دي ستال لتخفق في حناياها خلجات الرومانسية، نظرا لأنها تمتلك كل المقومات.وقد استطاعت أن تتقبل معطيات المذهب الجديد على الرغم من أنها قد تشربت أصول الكلاسيكية.
لقد كانت فرنسا السباقة في رفض القيود المتأصلة فيها، فأنجبت رواد الثورة والتحرر وفي مقدمة هؤلاء الرواد، جان جاك روسو (1712- 1778) الذي أسهم في نشر الوعي الاجتماعي وترجمته إلى سلوك إنساني جديد على الصعيدين السياسي والتربوي.وتعتبر روايته “هيلوييز الجديدة” عملا أدبيا هاما أسهم في نشأه الرومانسية وتحديد هويتها.
من الأدباء الألمان الذين مهدوا لظهور الرومانسية، الشاعر العظيم (غوته) في بواكير كتاباته وهي رواية (الآم فرتر)، وإذا كان كلا الأدبين قد أثر في عصره تأثيرا قويا، فلأنهما تخليا عن اللغة الكلاسيكية والمفاهيم التقليدية واستخدما لغة نابضة بالحياة والصدق والعفوية، تتحدث عن الطبيعة مصدر الجمال في الوجود.وانطوى أدبهما الغنائي على جانب كبير من الدعوة إلى الإصلاح والتغيير، ولقد جاءت الثورة الفرنسية (1789)، لتشكل أحد العوامل الكبرى التي كانت باعثا ونتيجة في آن واحد للفكر الرومانسي المتحرر والمتمرد على أوضاع كثيرة من بينها الإقطاع السياسي والديني والاجتماعي المتمثل في سيطرة النبلاء ورجال الدين على مقاليد المجتمع وثرواته.وكانت ردة الفعل على هذا الوضع، قوية مشبعه بالأفكار التحررية فاغتذت نفوس الأجيال الجديدة طعم الحياة الجديدة.ونذكر من الأدباء الفرنسيين الذين شاركوا روسو ثورته، “ديدرو، فولتير”، ومن الألمان “شيللر، بورجر”.
ويقول الناقد الفرنسي سانت بوف: إن روسو هو أول من أدخل الأخضر إلى الأدب الفرنسي لشدة تعلقه بالطبيعة.وقال غوته : فولتير نهاية العالم القديم وروسو بدء العالم الحديث.ولقد توافق الدارسون في ما بعد على أن روسو طبع الرومانسية بطابعه، فاستحق لقب ((جد الرومانسية)).ولعل تأثيره في الأدب الرومانسي كامن في أفكاره وأرائه التربوية والاجتماعية المتحررة التي تمردت على تقاليد مجتمعة ومألوف عصره، ولاسيما فكرته المعروفة التي تأكد طبيعة الإنسان الخيرة، لكن المجتمع هو الذي يفسدها، كذلك أفكاره الفردية التي ينبغي على الفرد أن يؤصلها في نفسه ليتمكن من إثبات قدرته ومشاركته في حضارة الإنسان.ومن جهة أخرى كان غوته في عداد جمعية الكتاب الألمان الذين أطلقوا على أنفسهم اسم “العاصفة والانطلاق”.
وكانوا صورة مصغرة للحركة الرومانسية الألمانية، ونادوا بمبادئ ثورية في الأدب والمجتمع، فأنكروا القواعد الكلاسيكية لأنها تقيد العبقرية وردوا صيحات روسو في تعظيمه من شأن الطبيعة الأم الحنون حيث لا عبودية ولا قيود. وتمنوا كما تمنى روسو لو أنهم عاشوا في العصر الذهبي في الحقول والغابات وظفروا بالسعادة التي لا سبيل إليها في مجتمعاتهم. وكان هذا دافعا لهم إلى الثورة على مجتمعهم وقوانينه وظلت الحرية هي الكلمة المرددة كل آن على ألسنتهم. وثاروا لذلك على امتيازات الطبقات شأنهم شأن غوته الذي استخف في “الآم فرتر”، بكبرياء النبلاء ولقد فضلوا وحي العاطفة على ضوء العقل ولم يعرفوا لأنفسهم سيدا أخر غير القلب، مقلدين في ذلك روسو ولقد تطلعوا إلى عالم جديد ينشرون فيه فضائل الروح والجسد. ولان بكوا وحزنوا وثاروا وتمردوا، فان الأمل بقي رائدهم وبقي أدبهم موردا خصبا للرومانسيين بعدهم…
(*) مدام دي ستال (جيرمين نيكر): (1766- 1817) : كاتبة فرنسية معروفة زارت ألمانيا وايطاليا والسويد وانكلترا ثم عادت متأثرة بالفكر الألماني. وضعت في العام 1810 كتابها الشهير (عن ألمانيا) وقد تناولت في البابين الأولين منه:
تعريف الفرنسيين بألمانيا التي يجهلونها.
دراسة عن “غوته”، و”شيللر” الألمانيين.
الصراع بين الرومانسية والكلاسيكية.
ولها كتابات سياسية من أبرزها (عشر سنوات في المنفى). ومجموعة روايات أبرزها: (دلفين وكورين).. إلى مجموعة واسعة من كتب في الدراسات والنقد الأدبي.
(**) الكلاسيكية: مذهب أدبي انطلق من فرنسا أواسط القرن السابع عشر ليعم معظم البلدان الأوروبية. ومن أهم مقوماته:
العناية الفائقة بالسبك والأناقة التعبيرية.
إبراز دور العقل.
معايشة الحياة عن طريق الحكاية.
سيطرة المصير الإنساني.
تأثر هذا المذهب بالمفكرين والأدباء القدماء فنقلوا تراثهم إلى تربة أوربية خصبة فحدثت وطورت ضمن قواعد صارمة ومتشددة.