الإماراتية عائشة الكعبي، تمثلُ وضمن أطروحاتها الثقافية المتنوعة، نافذة جمالية تحقق الحوار الجاد وتمنحه عمقاً معرفياً واعياً، فهي باحثة وقاصة ومترجمة، وصاحبة مجموعتين قصصيتين “غرفة القياس” الصادرة عام 2007 عن دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة، و”لا عزاء لقطط البيوت” التي صدرت عن دار أزمنة، بعد أن حققت لها هذه المجموعة مؤخراً المركز الأول في جائزة المرأة الإماراتية للإبداع والفنون، كما صدر لها حديثا العديد من الترجمات الإبداعية، عملت كأستاذ مساعد في كلية العلوم جامعة الإمارات، ثم مع المنظمات الثقافية العالمية، في رئاسة قسم اليونسكو في اللجنة الوطنية للتربية والثقافية، فكان للعالم الجديد هذه النافذة الحوارية معها.
ذاكرة النخيل والقهوة والطفولة
وأنا قادمة إلى المدينة في نهاية الأسبوع، رأيت النخل وظلاله المسكونة بأصوات العصافير فأخذتني هذه المشاهد إلى نوافذ الذاكرة الجميلة حيث أمي وعمتي وهما تجلسان على الحصير تحتسيان قهوة الضحى وتحكيان لنا أجمل الحكايات حتى موعد طبخ الغذاء.
ساعتان صباحيتان من أجمل ما اختزل في ذاكرتي وأنا أستمع بشغف لحكايات عمتي وقصائد أمي وقدرتها الجميلة على حفظ الكثير من عيون الشعر الإماراتي وتراثه الأصيل.
فكنت أنهل من هذه الحكايات كنافذة للاجتهاد في المدرسة وهذا الشيء زاد من اهتمام أبي في رعايتي وتشجيعي وتحفيزي لما هو أفضل، فكنت من أوائل المشاركات في الحفلات المدرسية من مسرحيات وأنشطة موسيقية وثقافية، إضافة لتجويد كتاب الله وحصولي على العديد من الجوائز على صعيد الدولة.
ولعل هذه الرعاية والاهتمام قد جعل مني متميزة في دروسي ومناقشاتي، وخصوصاً من عائلتي العاشقة للقراءة، فأختي الكبرى كان تمتلك مكتبة تزخر بعيون الكتب، فكنت أدخل لعوالم القراءة البهية وأنهل منها منذ الطفولة روايات نجيب محفوظ ويوسف السباعي والأدب العالمي، من هذه االعوالم تحسست القلم لأنطلق في تدوين خواطري وأشعاري الصغيرة، فالكتابة كما قالوا هي استعداد جميل لإعادة تشكيل تضاريس القراءة، كما كان لدي قدرة جميلة على حفظ القصائد، وتلحينها وغنائها وأنا في السادسة من عمري، حين أتسلل من بيتنا إلى بيت عمتي المجاور للذهاب في رحلة الرعي الصباحية حيث السهول الفسيحة الدافئة في المنطقة الوسطى القريبة من الذيد.
رحلة السرد
أشبه برحلة صوفية، رحلة بوح الطبيعة، لاكتشاف نسيم الهدوء والطمأنينة والأمل، كنا في هذه الرحلة نحترم الطبيعة ونسمعها تتكلم لنسكت في حضرتها، من هنا بدأت بكتابة الأغاني وتلحينها في الصف الثالث ابتدائي، أخذها من أناشيد كتب الأطفال وأشرع بغناء إحدى القصائد، لأشدو بها في فضاءات المدرسة وعلامات الدهشة ترتسم على معلماتي، فتأخذني معلمتي وأنا في الصف الثاني ابتدائي لكي أقراء لطالبات الأول ثانوي.
وقتها كانت المناهج أفضل والكتب كذلك، فكنت أكتب التعبير الإنشائي والخواطر الوجدانية والشعر والمسرحيات بتميز، فأول مسرحية كتبتها كانت بعنوان “لمن يهمهُ الأمر”، وحصلت على المستوى الأول، بعدها انطلقتُ بكتابة النصوص القصصية عام 1991 في سنة أولى في الجامعة بقصة بعنوان “الشمعة” نشرت في صفحة على الدرب في جريدة الاتحاد بتشجيع من الأديب العراقي جمعة اللامي الذي كان له الفضل الكبير في اقتراح اسمي على الساحة الأدبية والملتقيات الثقافية.
بعدها أكملت دراستي الجامعية لأسافر إلى الولايات المتحدة الأميركية في بعثة دراسية، فتوقف عن النشر بعد بيات أدبي مررت به وخصوصاً في إعادة اكتشاف شخصيتي وكتاباتي لتوسيعها بشكل إبداعي أكثر، وبعد العودة تزوجت وأصبحت أماً فترددت كثيراً وخصوصاً في تلمس الذات والمكان والغربة، فكتبت قصة بعنوان “علياء مهددة بالانقراض” تحكي عن عوالم الغربة الإنسانية، وبحكم دراستي للغة الانكليزية بدأت بالترجمة، لأني تعرفت على عوالم إبداعية تستحق أن تطرح للقارئ العربي، لما فيها من لحظات استنارة وحكمة وإلهام، فشرعت بترجمة مجموعة قصصية للكاتب إيتالوا كالفينو بعنوان “أرقام في الظلام”، وترجمت كذلك لـ”تشيخوف، كابوتي، طاغور”، وغيرهم من مبدعي الأدب العالمي.
حنين الكتابة والإبداع
بعد مجموعتها القصصية “غرفة القياس” التي ترصد فيها عائشة الكعبي تلك التفاصيل الإنسانية الصغيرة في عوالم المرأة والحياة والمجتمع، تنتقل إلى القصة قصيرة جداً عبر مجموعتها الجديدة “لا عزاء لقطط البيوت” في نصوص مسكونة بالدهشة والإيحاء والرمز في تناول بعض القضايا الاجتماعية والإنسانية، وعن عوالم الكتابة وطقوسها تتحدث عائشة الكعبي قائلة “الكتابة عندي تعني الخلود والبصمة التي أؤثث لها في هذا العالم، عبر تلك الروحانية والتواصل الإنساني الذي يفوق العمر والتواجد الجسدي، فالكاتب مثل المكتشف الذي يبحث في مجهر الحياة عن بريد السعادة والأمل، أو الصياد الذي يلتقط موقفاً صغيراً يمثل استنارة إنسانية لشخص آخر، وهذا إحساس هائل بوظيفة الكتابة، فأنا أكتب للإنسان منطلقة من الذات إلى حيث الآخر الذي يشترك معنا في الكثير من السمات الإنسانية المتناغمة ويختلف معنا بنسبة أقل، أي أن المشترك الإنساني هنا أكثر من المختلف”.
وعن فوزها بجائزة المرأة الإماراتية للآداب والفنون التي ينظمها المكتب الثقافي في المجلس الأعلى لشؤون الأسرة في الشارقة بالتعاون مع رابطة أديبات الإمارات، أكدت الكعبي على المعطى الجمالي والثقافي التي تمثله الجائزة، وخصوصاً اهتمام القائمين على الجائزة بمفاصل العمل الإبداعي للمرأة الإماراتية وتنوعه الأدبي والفني والإنساني، مناشدة بضرورة الاهتمام المتواصل والرعاية الأكثر تحفيزاً للإبداع في شتى صنوفه وطرائقه المتنوعة.
شفافية العمل الإذاعي
أنا أحب الكاميرا، أحب التقديم، فهو مثل نزهة جميلة، وممارسة إبداعية لشغف طفولي قديم، وكانت تجربتي في الفضاء المرئي متميزة وحافلة بالكثير من التفاصيل الإنسانية التي وجدتها في أعين الجمهور وسؤالهم المتواصل والجميل، فالمذيع التلفزيوني يدخل كل بيت، يقدرهُ الناس وتدعو له أمهات الوطن بالحب والخير دائماً، ومن الشهادات التي أعتز بها شهادة الأستاذ جمال سند السويدي حين قال إن “عائشة الكعبي أفضل وجه إذاعي مر على تلفزيون أبو ظبي”، ولعلها تجارب تلمست فيها عم قرب نبض المجتمع وهمومه وتطلعاته، ولا أنسى أن أسجل احترامي المتواصل لمن ساعدني ودعمني وخصوصاً الأساتذة “سفيان جبر وشذى عمر” اللذين كان لهما الفضل الكبير في تأهيلي وإعدادي، رغم ذلك فقد كانت تجربتي في الحقل الإذاعي حافلة بالعديد من العوامل التي جعلتني أغادر هذا الحقل، منها الافتقار بعض الشيء إلى الشفافية والمصداقية المطلوبة وإتاحة مسافات أكثر من الحرية والطموح، وخصوصاً في ترويج نموذج معين أو شكل أو محددات معينة، وللأسف الشديد فأن أغلب الشباب الواعي والمتمكن والمستنير يستبعد عن الواجهة الإعلامية ولا أعرف السبب وربما كانت هذه من أهم أسباب تراجع الفضائيات المحلية.