غابرييل جوسيبوفيتشي روائي غزير الانتاج وبارز، منظر أدبي، ناقد، وباحث. فاز بجائزة سومرست موم للقصة القصيرة، وكتابه “The World and The Book” (العالم والكتاب) ظل كتاباً مؤثراً في الدراسات الأدبية. الاستاذ السابق الحائز على منحة وايدنفيلد للأدب المقارن في جامعة أكسفورد، عمل كأستاذ باحث في كلية الدراسات العليا للعلوم الإنسانية في جامعة ساسكس.
في كتابه غير القصصي الأخير “What Ever Happened to Modernism?” (ماذا حدث للحداثة؟) يرسم مراحل إثبات الحداثة ويشير الى أنها، في الأساس، فن مقبل على إدراك حدوده ومسؤولياته.
- ماذا تعني الحداثة بالنسبة لك؟
في البداية، يجب القول أن تعريف الحداثة بأي شكل من الأشكال هو اتخاذ موقف. بهذا المعنى هي تشبه الرومانسية. لا تستطيع كتابة “تاريخ الرومانسية” أو الحداثة، لأنك لا تستطيع أن تقف فوقها في نقطة تحكم محايدة. ناقشت في كتابي أن الحداثة ارتبطت ببعض الفنانين الطليعيين الذين عملوا بين عامي 1850 و1950، من الخطأ تماماً التفكير بها على أنها مرحلة تأسيس، مثل الأسلوبية، أو العصر الفيكتوري، لأن ذلك يعني أنها انتهت الآن أو أنها خلفنا. بدلاً من ذلك، أرغب في الإشارة الى أن من الأفضل النظر إليها على أنها وصلت للإدراك عن طريق فنيّة حدودها وبالتالي إمكانياتها. ربما يبدو هذا انطوائيا بشكل رهيب والفن للفن، لكن الأمر على العكس تماماً. أنا أرى أن الفنان حداثوي، من رابليه وسرفانتس مروراً بستيرن وحتى وردزورث، هولدرلين وكلايست والى مالارميه، إليوت، كافكا، بروست والباقين، كلهم مهتمون في المقام الأول باستكشاف العالم، لكنهم يعرفون أيضاً أن للقيام بذلك عملياً يجب فهم أن الكتابة هو العمل مع الكلمات، كتابة الموسيقى هو العمل مع الأصوات، والخ. لذلك بالنسبة للكتّاب هناك استراتيجية رئيسية واحدة وهي أن يوضحوا للقارئ أين تقع الحدود بين الكتاب والعالم.
- ما مشكلة الحداثة اليوم؟
ليس هناك مشكلة مع الحداثة اليوم. أو بالأحرى، هي نفس المشاكل الموجودة منذ 150 أو 500 عام.
- هل أن مسؤولية تلاشي الحداثة الأدبية تقع على منتقديها أكثر أم كتّابها في بريطانيا؟
الفنانون يفعلون ما بوسعهم، لكن النقاد يعزونها للجمهور الذي عليه إلقاء نظرة أوسع. عندما جئت الى إنكلترا في أواخر الخمسينيات تمكنت من قراءة مقالات عن الأدب، الفن والموسيقى في صحف قومية من قبل نقاد من مثل فيليب توينبي، جون بيرغر، ويلفريد ميليرز وديفيد درو. هؤلاء الرجال انغمسوا في فن المئة سنة الماضية وكوّنوا أراء حول كل ما قرؤا، شاهدوا وسمعوا وفقاً للمعايير المستمدة من مثل هذه الفنون. كان لديهم وعي أوروبي، وكانوا في الوطن في باريس سنوات الحرب العالمية الأولى، روسيا في العشرينيات، فايمَر الألمانية، والخ. كتّاب المقالات في وقتنا الحاضر، عندما أقرأ لهم، أشعر بأنهم أقليميين في الأساس، يتطلعون، برغم كل شيء، نحو ولايات متحدة إقليمية متساوية، لكن بعيدة كل البعد عن الفن في أوروبا. هذا يجعلني أشعر أني غريب، كما لم أشعر به عندما وصلت لأول مرة الى هذه الشواطئ.
- هل ترى أن الحداثة مزدهرة في أي مكان آخر من العالم؟
لا أرى أن الحداثة “ازدهرت” في أي وقت. حتى بيكاسو عمل دون أن يشتهر لسنوات. لكن في الحقيقة أن في فرنسا وألمانيا لازال هناك مجال، في مكان ما على الحافة، لنقاش جاد (ولا أعني رسمي) حول الثقافة والفنون، ومنح المجال لعمل مثير جديد للظهور. عندما أقرأ بالألمانية أواجه الجمهور المستعد للتعامل مع الأعمال حسب مميزاتها. في إنكلترا السؤال الأول يميل أن يكون: “لماذا تكتب مثل هذه الكتب الصعبة؟” هذا يحيرني لأني لا أفكر بأن كتبي صعبة. في ألمانيا يسألون: “كيف توصلت الى هذا الحل؟” في فرنسا: “هل يمكنك الحديث قليلاً حول النقطتان في عنوانك: غولدبيرغ: الاختلافات؟”.
- كيف انسجمت ما بعد الحداثة مع حجتك؟
لم يحدث ذلك. واحدة من الحجج الضمنية لهذا الكتاب هي أن الحديث عن ما بعد الحداثة هو مثال آخر على محاولة وضع الحداثة بشكل آمن خلفنا، لعدم مواجهة أسئلتها المزعجة. أود القول، رغم ذلك، أن هناك مرحلة ثانية للحداثة، بمعنى، مع بورخس، مع كينو، مع بيريك، مع برنارد، مع غيرت هوفمان، مع كونديرا، رغم المعارك الكبيرة التي تم خوضها وانتصر بها بروست، كافكا، مان، موزيل، وآخرون، يمكن للمرء أن يكون أكثر تواضعاً، وأخف إذا صح التعبير. يمكن أن تراها في علاقة جورج لغيتي وجورج كورتاك بالنسبة الى أرنولد شوينبيرج وآنتون ويبرن، على سبيل المثال، أو لفترة قريبة في علاقة ديفيد هوكني و ر. ب. كتاج بالنسبة لبيكاسو والتكعيبية.
- تناولت حالة مقنعة وهي أن الحداثة بدأت في تاريخ سابق للتاريخ المسلم به عموماً. لكن ماذا عن القرن السادس عشر الذي قاد التحرر من الوهم، التخلص من السذاجة وإقحام الأنا في الفن؟
في الكتب والمقالات السابقة، مثل “العالم والكتاب” و”عن الثقة” بحثت عالم دانتي وتشوسر، ودرست كيف أن، في مسرحية مثل ريتشارد الثاني، شكسبير حدد اللحظة التي تركنا فيها القرون الوسطى ودخلنا العالم “الحديث”. علماء من مثل تشارلز سينغلتون وأيمون دافي رسم الانتقال بتفصيل عظيم ومميز. فوكو، بروح أكثر جدلية، بحث أيضاً المرحلة الانتقالية، في كتاب بعد كتاب. ما تحتاج أن تفهمه هو أن أعمال القرون الوسطى على سطح القوصرة لكاتدرائية، على سيبل المثال، يقدم كل من جوهر الموضوع والاسلوب. هذا لا يعني أن ليس هناك اختلافات كبيرة بين التماثيل في الكاتدرائيات المختلفة وأن ليس هناك مجال للابتكار، لكنه كان دائماً داخل إطار التقاليد. هكذا دائماً سارت كل الفنون في العالم، حتى جاءت الحداثة ــ في أوروبا الغربية في القرن السادس عشر، في باقي العالم في القرن العشرين ربما. لكن حتى هنا نحن نتذكر الرؤية النتشاوية التي “سقطت” عدة مرات في التاريخ. لهذا السبب ضمنت الكتاب فصلاً عن المسرحيين الكلاسيكيين الاغريقيين الثلاثة إسخيلوس، سوفوكليس ويوربيدس، لأن من الممكن ملاحظة أن التغيير في الأثنين الأوليين بالنسبة للثالث متشابهاً جداً ويمكن للمرء أن يجده بين، مثلاً، دانتي وميلتون، أو جاوين وديفو وريتشاردسون.
- كيف تشعر حيال ردة فعل الاعلام على نشر “ماذا حدث للحداثة؟” أود أن أشير بشكل رئيسي لحوراك مع الغارديان قبل إصدار الكتاب بفترة قصيرة والتغطية التي تلت هذا الحدث.
“حوار” صحيفة الغارديان لم يكن حواراً ولا يعكس وجهات نظري. الصحفية صادرت عبارة أو أثنين من فصل واحد من مجموع 200 صفحة للكتاب، انتزعتها خارج السياق و، على أساس سلسلة من المحادثات الهاتفية التي تضمنت أساساً محاولتي لتفسير أنها لم تفهم ما أحاول قوله لها، قُدمت على إنها حوار. بعد ذلك نشرت الصحف الأخرى ووسائل الأعلام التي كانت حريصة على وضعي في خانة “تفصيل” ما قلته للغارديان. عندما رفضت واقترحت بدلاً عن ذلك الحديث عن كتابي، قالوا إنهم غير مهتمين بهذا الموضوع. وبعد ذلك نُشرت المقالات التي لا شأن لها بالكتاب لكن بالهجمات الشخصية ضدي على ما كان مفترض أني قلته. أخيراً نشرت مقالات شعرت أن كتّابها قد قرؤوا الكتاب. بعضها كان حافلاً بالمديح، وبعضها نقدي، لكن على الأقل هم تعاملوا مع الكتاب.
- هل أن رد الفعل هذا، مع تركيزه على الشخصيات، يدل على المشاكل التي حددتها في الكتاب؟
يدل على انزعاجي، في بداية ونهاية الكتاب، المحددة بالمناخ الثقافي في إنكلترا. لذا لا ينبغي أن أفاجأ ــ لكن النقد اللاذع، يجب أن أقول، فاجأني، والسخرية.
- كيف أثر دورك كناقد على أفكارك بشأن الحداثة؟
أظن أن كل الفنانين أنانيون وينظرون للماضي عن ما يمكن أن يساعدهم في الحاضر. وبعد ذلك يمدحون الفنانين الأكبر منهم سناً على أمل أن هذا سوف يجعل الجمهور يفهم أعمالهم بشكل أفضل. على سبيل المثال: إليوت مدح دون وبروست مدح روسكين. لكن في الواقع أن كل ملاحظة نقدية هي مثل ذلك، والسؤال هو (وبهذا السؤال ختمت كتابي): “هل أن وجود وجهة نظر خاصة يساعدك على الرؤية بشكل أفضل أو يمنعك الرؤية بشكل صحيح؟” ليس هناك حقائق مطلقة في مثل هذه المناقشات ــ فقط محاولات لجعل الناس يرون الأشياء من وجهة نظرك في اعتقاد أنها أقرب الى الحقيقة أكثر من وجهات النظر الأخرى ــ الزمن وحده كفيل بإثبات ما إذا كنت قد نجحت أم لا ــ لكنك لن تعرف أبداً ما إذا كنت على حق أم لا.
المصدر: Berfrois
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
غابرييل جوسيبوفيتشي (Gabriel Josipovici): روائي، ناقد، قاص، وكاتب مسرحي بريطاني. ولد في نيس، فرنسا عام 1940 لعائلة يهودية من أصل إيطالي- روسي وروماني – مشرقي (سوري)، درس في القاهرة من 1950 – 1956 في كلية فكتوريا قبل أن يهاجر مع والدته الى بريطانيا وإنهاء دراسته الاعدادية في شلتنهام، درس الإنكليزية في سانت إدموند هول، أكسفورد وتخرج منها في 1961. درّس في جامعة ساكس من 1963 وحتى 1998 كأستاذ باحث في كلية الدراسات العليا للعلوم الإنسانية. في 2007، قدم محاضرات في جامعة لندن قسم الآداب جمعت في كتاب تحت عنوان: “ماذا حدث للحداثة؟”
* نُشر الحوار في 2010