صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

حين لم يكره الشعر نفسه

 

 

فوجئت قبل أيام بمنشور للأستاذ البصري طالب عبد العزيز في صفحته الشخصية تحدث فيه عن جلسة الختام لمهرجان المربد واستغربت ما ورد فيه من آراء متحاملة أو متسرعة في أفضل الأحوال حول شكل من أشكال القصيدة العربية وهو الشكل العمودي لكنني تجاهلت الموضوع لأنه في النهاية (منشور فيسبوك) ليس إلا لكنني وجدت هذا المنشور قد كبر ليصبح مقالا في جريدة الصباح بعد يوم أو يومين وهذا ما دفعني لكتابة هذه الكلمات كون الصفحة الثقافية للصحيفة الرسمية لبلد ما تعد مرجعا من المراجع التي قد يلجأ لها الباحث في الشأن الأدبي  مستقبلا وهي بالضرورة تختلف عن صفحة فيسبوك قد لا يشاهدها الكثير وقد يحذف صاحبها ما كتبه فيها بعد مدة من الزمن.

 

أدخل في موضوعي لأناقش ما ورد من آراء في المقال كون منشور ( الفيسبوك ) لا يعنيني كما أسلفت إذ يقول الأستاذ طالب عبد العزيز في مقاله:

 

“من غير المعقول قيام مؤسسة ثقافية عريقة، مثل اتحاد الأدباء، بشقّيه المركز في بغداد وفرعه في البصرة، وبعد مرور أكثر من خمسين سنة على وفاة رائد الحداثة في الشعر العربي، بدر شاكر السياب بالمساهمة في التأسيس لعودة الشعر العمودي، بشكله القبيح والأكثر قبحاً، الفج والأكثر فجاجة إلى الثقافة العراقية”.

 

لن أدافع عن اتحاد الأدباء لأن هذه ليست مهمتي، لكنني أسأل كيف ساهم الاتحاد في التأسيس لعودة الشعر العمودي؟ ما هي الأبواب التي فتحها أمام القصيدة بشكلها العمودي وأغلقها أمام الأشكال الأخرى؟ وهل ميَّز شاعراً يكتب شكلا ما من القصيدة عن شاعر آخر لاسيما إذا ما علمنا أن المِنَصَّات والصحف والملتقيات أصبحت متاحة للغالبية إن لم نقل للجميع ثم إلى ماذا استندت جملة “الشعر العمودي، بشكله القبيح والأكثر قبحاً، الفج والأكثر فجاجة”؟ كيف تميِّز سيدي بين الفج وغيره؟ ليتك أرشدتنا بمفاهيم واضحة قبل إطلاق هذه الجملة العمومية شاسعة الإقصاء.

 

وفي فقرة أخرى يقول الأستاذ طالب عبد العزيز “كنتُ أُنصت لما قُرئ من شعر في القاعة، التي تهدأ لحظة وتضطرب ثلاثا، فيخدش سمعي لفظٌ كنت أظن أنَّ حياتنا غادرته، أو تركته لمن هم في البادية، في الوهاد، في الرمل وفي الفيافي البعيدة، إذ إنني ما وجدت ضرورة لسماعي مفردات وجملا مثل الترس والسيف والرمح واللثام وحافر الحصان والبطولة المتوهمة في القبض على العنان وشدّ اللجام وركز الوتد والدعوات لأخذ الثأر والوقوف على الأطلال… إلخ مما كان شاعرُنا العربي يتناوله ويؤثث به قصيدته”.

 

وهنا أقول هل غادرت حياتنا فعلا هذه المفردات؟ والجواب لا لأننا نكتب بلغة أمة ما زالت تقتتل على عزف نصوص قادمة من حقبة تلك المفردات فعن أيَّةِ حياة يتحدث الأستاذ طالب عبد العزيز ثم اننا إذ نستخدم مثل هذه المفردات فلا نستخدمها بتلك الإحالة العنيفة التي قد يكون الأستاذ طالب فهمها خطاً إذ أن الحصان الذي يراه بوابة لبطولة متوهمة قد نراه لوحة جمالية تشير إلى تناسق التكوين واللثام الذي لا يراه إلا على وجه عربي هارب من هجير الصحراء نراه اليوم ظاهرا على وجه سياسي هارب من هجير الضمير، ولهذا نستخدمه ونحيله إلى ما يريد الشعر لا إلى ما يريده الأستاذ طالب عبد العزيز، وإذا كان ذنب هذه المفردات الوحيد هو كونها عتيقة، فلا تنس يا سيدي بأن اسمك واسمح لي أن استخدمه بلا كنية (طالب) هو قديم مثلها ووفقا لقاعدتك فهو أولى بالحذف من القواميس، فإذا قلت بأن هذا اسمي في الحياة والقصيدة تختلف عن الحياة، فبالنسبة لي أرى الحياة الحقيقية في القصيدة وإن قلت بأنه ليس خيارك الشخصي كونك لم تختره إذ كنت طفلا فهو اليوم خيارك ولعل في (أدونيس) مثالا حيا في الوفاء للحداثة، إذ تخلى بشجاعة تامة عن اسمه العتيق، ثم يا سيدي كل قصائد جلسة الختام التي تحدثت عنها – أعني العمودية منها – موجودة على موقع (يوتيوب)، فهلا دللتنا على مواقع وقوفنا على الأطلال، وأخذ الثأر وتغنينا ببطولة متوهمة توهمتها أنت ولم نذكرها قطعا في قصائدنا!!

 

كنت أتمنى أن تعزز رأيك بمقاطع من القصائد التي سمعتها.

 

ثم من قال أن مفردة ما تناسب الحداثة وأخرى لا تناسبها؟

 

يا سيدي المشكلة في نية استخدام المفردة وفي نجاح مستخدمها من عدمه لا في المفردة المسكينة أبدا وإليك مثالا لمصباح من مصابيح الحداثة (الحقيقية) وهو الماغوط:

 

آه كم أودّ أن أكون عبداً حقيقياً

 

بلا حبّ ولا وطن

 

لي ضفيرة في مؤخرة الرأس

 

وأقراط لامعة في أذنيّ

 

أعدو وراء القوافل

 

وأسرج الجياد في الليالي الممطرة

 

وعلى جلدي الأسود العاري

 

يقطر دهن اللوز الأحمر

 

وتنثني ركب الجواري الصغيرات
سؤالي هنا عن هذه المفردات (عبد، جياد، قوافل، جواري) هل تدخل هذه الكلمات ضمن قائمتك السوداء للمفردات التي غادرتها حياتنا أو تركتها “لمن هم في البادية، في الوهاد، في الرمل وفي الفيافي البعيدة”؟

 

محمد الماغوط

 

أنتقل إلى فقرة أشد غرابة من سابقتها، حيث يقول الأستاذ طالب عبد العزيز “أمر في غاية السخف أن يُسمعنا شاعر، أي شاعر شعراً كهذا، وهو يرتدي بذلة تركية أنيقة وحذاء فرنسياً وساعة سويسرية ويستعمل هاتفاً أميركيا، هناك قطع معرفي بين هيأته وما يقول في القاعة المضاءة بالنيون”، وأنا أقول إنه أمر في غاية الغرابة أن نربط ما نلبس وما نستخدم من تقنيات بما نكتب، نلبس بذلات تركية، لأننا بلا مصانع تصنع البذلات ونستخدم هواتف أمريكية لأننا بلا مصانع تصنع هذه الهواتف، لكننا نكتب عن حياتنا لأننا لسنا بلا حياة ولا تنس بأن ماركيز الذي لبس واستخدم ما ذكرت وعاش في العواصم “المضاءة بالنيون” انطلق للعالم بذكاء عندما كتب لهذا العالم عن “ماكوندو” تلك القرية المجهولة في كولومبيا والتي أنسانا حتى اسمها الحقيقي، كتب عن الكولونيل الكولومبي الذي ليس له من يكاتبه وعن عشق كولومبي في زمن الكوليرا، ولم يكن سطحيا لدرجة أن يكتب للآخر عن حياة الآخر وبأسلوب الآخر، ويكون كمن يبيع التمر في البصرة ولو فعل ذلك لمات وهو مجهول يلعن الناس ويتهمهم بالسخف.

 

وعلى قياسك هذا أود أن أسأل عن المادة الخام للشعر وهي اللغة التي ما عادت كما كانت وتغيرت وتفرعت إلى لهجات عدة، واللهجات قطعا هي أكثر حداثة زمنية من العربية الفصحى، فلماذا نصر على الكتابة بها – أعني الفصحى –  مع يقيننا الراسخ بأن اللهجات الدارجة أحدث زمنيا منها، فهل يحق لنا أن نقول بأنه من “السخف” أن يتحدث “شاعر، أي شاعر” مع أمه وأخته وحبيبته وابنه وجاره وزميله بلهجة يستعملها يوميا لكنه يكتب بلغة قد يراها جاره وابنه بأنها تسبب للمتحدث “قطعا معرفيا” بين ما يستخدم من لهجة للحوار، وما يكتبه من لغة في القصيدة.

 

أما الفقرة التالية من مقال الأستاذ طالب عبد العزيز فتقول “قلت لصديقي الشاعر عارف الساعدي، وكان ممن قرؤوا في الجلسة الأخيرة: “أنا سعيد الليلة هذه، فقد شيّعتُ ونفسي جنازة شعركم العمودي”.

 

وإذا كان شعرنا العمودي قد تحول إلى جنازة فما الجدوى لإهدار الوقت لكتابة المقالات عنه أو في ذمه فهو في النهاية مجرد جنازة ليس إلا ثم ان عبارة (شعركم العمودي) الفضفاضة تحيلني إلى سؤال لابد منه وهو هل أن الذي قرأناه يمثل كل الشعر العمودي؟ كيف يمكن لستة أو سبعة شعراء أن يمثلوا شكلا شعريا كاملا وإذا كان الكلام عن كل الشعر العمودي الذي قُرِئ في المهرجان فهو أيضا غير كاف قطعا لإصدار حكم كهذا ثم ما بال الذي يفر من مفردات يراها أصبحت لا تناسب الحداثة يطلق أحكاما تعود في إقصائيتها إلى ما قبل التاريخ ! (لقد تحول شعركم إلى جثة، رفعت الجلسة)، هكذا بلا تحليل ولو بتأن بسيط يتوجب على أي منصف تتبعه فالحداثة موقف وليست مجرد كلمات تصف في ورقة ما.

 

في مقطع لاحق من المقال يقول الأستاذ طالب عبد العزيز “ففي محاولة يائسة، كانت إدارة المهرجان قد ادّخرت خمسة من (أفاضل) شعراء العمود العراقيين (المُحدثين) ليقرؤوا في جلسة الختام، بينهم أكثر من اثنين، ممن صعدوا أو حاولوا الصعود، منصة ما يسمّى بشاعر المليون”.

 

لن أناقش المحاولة هل كانت يائسة أم لا ولن أناقش قطعا نوايا إدارة المهرجان لكنني سأناقش شيئا يقارب الكارثة، وهو أن الأستاذ طالب أحالنا إلى اسم برنامج لم نظهر فيه، ولم نحاول الظهور وهو مختص بالشعر النبطي (شاعر المليون)!!

 

سيدي العزيز لعل اسم البرنامج الذي تعنيه هو (أمير الشعراء) وان الحداثة التي تدعو لها والهواتف الأمريكية التي تتبجح باستخدامنا لها لن تكلفك سوى ضغطة زر لتعرف اسم البرنامج الذي تعنيه، لاسيما وأنت تكتب مقالا تتحرى فيه الدقة وتنشره صحيفة رسمية، وأنا هنا أدعوك لاستخدام الحداثة في الحياة كما تدعونا لاستخدامها في القصيدة مع استخدامنا لها، لكن بطريقتنا لا بطريقتك، استخدم الحداثة في الحياة يا سيدي فهي بسيطة ومجانية تقريبا.

 

أنتقل من واحة الغرابة هذه إلى فقرة أخرى من مقال الأستاذ طالب عبد العزيز يقول فيها “لا أريد أن أتحدث عن الشعراء الذين قرؤوا قصائد تفعيلة أو نثر- فهذا موضوع آخر، لكنني أتحدث هنا عن القصائد العمودية حصراً، سأقول، لم أكره الشعر كما كرهته الليلة تلك، كنت مختنقاً، أحسست أنَّ هواء القاعة قد مُنع عنّي”.

 

وهذا رأي شخصي نحترمه فللمتلقي حق في انتقاء ما يسمع، لكن من باب الشيء بالشيء يذكر أنا شخصيا اختنقت في المرات الثلاث التي سمعتك فيها، لكنني لم أصرح لأن لك الحق في اختيار ما تكتب ولمن يسمعك ويتنفس بعمق حق عليَّ في احترام رأيه، لكنني أصرح هنا مستفيدا من جمال صراحتك التي علمتني – وأعترف بهذا- بأنه لابد من التصريح عندما يخدش نص ما أذواقنا، لكن هل ما سمعته منك يكفي لكي أطلق حكما قاتلا بأن شعرك ليس سوى جثة؟ بالتأكيد لا، لأنني أولا لم أقرأ منجزك كاملا، وثانيا لأن رأيي في النهاية لا يعدو كونه رأيا انطباعيا قد يثبت لي عكسه بعد مدة زمنية ما ولو فرضنا بأنني قد قرأت كل منجزك بتمعن تام ولم أجد فيه ما يسر، فهذا أيضا لن يكون مبررا لإطلاق حكم نهائي لأنك من الممكن أن تكتب شيئا عظيما في لحظة قادمة ما، لا أحكام نهائية على تجربة ما مادام صاحبها حيا يمارس فن الكتابة، هذا ما أعرفه وهكذا تُطْلَقُ الأحكام بروية تامة لا في لحظة مراهقة سمعية.

 

بدر شاكر السياب

 

في النهاية أود الإشارة إلى ثلاثة أمور أولها هو انني قررت النشر هنا وليس في جريدة الصباح التي نشرت مقال الأستاذ طالب عبد العزيز، لأن الإخوة في الصباح طلبوا نشر المقال على دفعتين بسبب حجمه فرفضت ذلك، شاكرا جهودهم كوني لا أرغب بما قد يشتت فكرة المقال، وهذا ما يفسر المسافة الزمنية بين المقالين أعني مقالي ومقال الأستاذ طالب عبد العزيز , وثانيهما يصب في أن هذه الكلمات هي غضبة للشعر لا لشخصي أنا، غضبة لشكل شعر يحاول البعض محوه بشتى الطرق ولو كان الأمر شخصيا لما كلفت نفسي كتابة حرف واحد ولعل في مقال أو مقالين كتبا عن قصيدتي (حرز البارود) الفائزة بمسابقة المكتبة الأدبية المختصة مؤخرا خير دليل على أنني لا أخسر حروفي ووقتي على أمر شخصي إذ لم أكلف نفسي سوى عناء الإطلاع على تلك المقالات ولم أكتب شيئا لأنها في النهاية تمثل رأي شخص ما بقصيدة ما لشخص ما ولا تلغي شكلا شعريا كاملا كما حدث في مقال الأستاذ طالب عبد العزيز.

 

أما عن الأمر الثالث فأقول بأن هذه الكلمات ليست دفاعا عن قصيدة العمود بوصفها قصيدة عمود، بل بوصفها شعرا كي لا نُفاجَأ مستقبلا بمقال مستعجل يحاول إلغاء قصيدة التفعيلة أو قصيدة النثر التي يكتبها أصدقاء يسكروننا بها في المجاميع الشعرية وعلى المنصات ونكتبها نحن لأنها باختصار شديد شكل من أشكال الشعر، علينا أن ندرك بأن الشعر موجود في الأشكال الثلاثة والإسفاف أيضا وأن لا نتعجل السير في جنازة نكتشف عند وصولنا قبرها بأن التابوت فارغ، وبأن المُشيِّعَ وحيد ليس معه إلا سوء الفهم أو بعض ممن يطلقون الأحكام بسرعة الرصاص أو من الذين بدأت نصوصهم تنحدر لهاوية يخشونها ولا يدركون كيفية التخلص منها، فعادوا يعلقون الأخطاء على شماعة الشكل المسكين.

 

إقرأ أيضا