لقد أمسى في عداد البديهيات غير القابلة للنقاش القول إن تنظيم الضباط الأحرار هو مفجر الانقلاب الجمهوري في 14 تموز 1958 وقائده، وأنه تنظيم سري واحد ومتجانس، أو أنه – في أقل تقدير – متفق في قيادته على الخطوط العامة لما حدث في ذلك الصباح. والواقع أن هذه المقولة “البديهية” التي تكررت كثيرا ليست إلا خرافة، أو بعبارة أقل وطأة ليست إلا مقولة غير واقعية ومغلوطة من حيث محتواها الخبري. إذ أن القراءة النقدية والتحليلية لمرحلة ما قبل الانقلاب الجمهوري سنة 1958 تؤكد لنا أن التنظيم العسكري السري الذي قام بالانقلاب لم يكن تنظيم الضباط الأحرار “الأصلي”، بل كان تنظيما آخر، انضم إلى التنظيم الأقدم منه اسميا بعد أربعة اعوام على تأسيسه – تأسيس تنظيم الضباط الأحرار- ثم انقطعت الصلة به بعد فترة قصيرة و خصوصا طوال الأشهر التي سبقت الحدث، وأن التنظيم “الآخر” هو الذي خطط ونفذ وتزعم ذلك الانقلاب العسكري و وضع تنظيم الضباط الأحرار بجميع مكوناته أمام الأمر الواقع فشارك منهم من شارك لاحقا، وهم غالبية الضباط الأعضاء، واستحوذت المجموعة المنفذة، والتي (أشعلت عود الثقاب ) بعبارة عارف عبد الرزاق ( حوار تلفزيوني معه سنة 2005 )، على كل شيء بعد نجاح الانقلاب، بما في ذلك اسم التنظيم الأم، ورفض قاسم وتنظيمه أي تقاسم للسلطة أو حتى تشكيل قيادة جماعية للثورة في هيئة ” مجلس قيادة الثورة” وقد برر عبد السلام عارف هذا الاستحواذ بعبارته الشهيرة (كيف نعمل مجلس قيادة من الضباط الذين كانوا نائمين بجوار زوجاتهم حين نفذنا الثورة)، وحين اشتدت خلافات عارف مع قاسم لاحقا دعا هو ذاته إلى تشكيل مجلس قيادة الثورة ولكن بعد فوات الأوان/ مدونة المؤرخ إبرهيم خليل العلاف. وهنا، في هذا الواقع الصراعي والمتشظي للجماعات العسكرية الثورية المتنافسة، نضع اليد الأولى والأثقل، على أهم مسببات ما حدث لاحقا من أحداث خطيرة ودموية، منها، بل من أبرزها، أحداث الموصل، وسنعرض بشكل سريع الآن، بدايات نشوء هذا التنظيم وصولا إلى الوضع عشية 14 تموز :
كخلاصة، يمكن القول، باطمئنان كاف، إن تنظيم الضباط الأحرار ( أو الوطنيين) الذي أسسه سنة 1952 رفعت الحاج سري ورجب عبد المجيد لا علاقة مباشرة له بانقلاب 14 تموز. وأن تنظيم آخر منفصلا أسسه عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف وناظم الطبقجلي وآخرين سنة 1956 – 1957، والذي انضم زعيماه الأبرزان قاسم وعارف ولفترة عام، يزيد أو ينقص قليلا، ثم انقطعت علاقتهما بتنظيم الحاج سري هو الذي خطط و نفذ وقاد انقلاب يوم 14 تموز. و باللغة التفاصيل نعلم أن هناك أربعة تنظيمات سرية مهمة – على الأقل- للعسكريين، نشأت ونشطت، قبل الرابع عشر من تموز هي:
- التنظيم الأول، هو “تنظيم الضباط الأحرار/ الوطنيين” أسسه سنة 1952، وبعد نجاح الانقلاب الجمهوري في مصر ضد الملك فاروق بأشهر، رفعت الحاج سري ورجب عبد المجيد، وضم في صفوفه عددا من الضباط العراقيين الكبار بينهم مؤسسه رفعت الحاج سري وهو الذي باشر بتكوين التنظيم وبناء خلاياه و وضع نظامه الداخلي وبرنامجه السياسي الخماسي و تشكيل قيادة رسمية سرية له تدعى”اللجنة العليا” ويمكن ان نطلق على هذا التنظيم صفة “التنظيم الأم”. وقد سبقت هذا التنظيم تنظيمات أخرى يعود أقدمها الى سنة 1924 منها منظمة أسسها صلاح الدين الصباغ وزملائه و وضعت ميثاقها السياسي الوطني سنة 1927 كما يخبرنا الضابط الشيوعي حامد مصطفى مقصود/ حوار صحافي نشر 2012 وسنشير إلى هذا المصدر بكلمة” مقصود”.
- التنظيم الثاني هو تنظيم، لم يعلن اسمه حتى اليوم، ولكن بعض الباحثين يشير إليه باسم “كتلة المنصورية ” في إشارة كما نرجح لمجموعة الضباط في تنظيم قاسم الذي كان يقود شخصيا قطعات الجيش في قاعدة المنصورية. وقد شكل عبد الكريم قاسم و عبد السلام عارف وناظم الطبقجلي هذا التنظيم بعد عودة قاسم وعارف من حرب فلسطين، وقبل 14 تموز 1958 بعامين، قد يزيدان أو ينقصان قليلا، أي بعد أربعة اعوام على تأسيس تنظيم الحاج سري و قد انضم قاسم وعارف الى مجموعة الحاج سري اسميا بعد ان كلف رفعت الحاج سري عضو التنظيم وصفي طاهر بمفاتحة عبد الكريم قاسم و لكن تنظيمهما الخاص “كتلة المنصورية” بقي منفصلا يتحرك بمفرده ثم قطع قاسم علاقته بتنظيم الحاج سري وطالب الجميع بواسطة عارف بالتنفيذ والمشاركة معها دون نقاش ثم أخذ على عاتقه مسؤولية تنفيذ العملية العسكرية لإسقاط النظام الملكي.
إن نشأة هذا التنظيم يكتنفها الغموض الشديد ولكننا نسجل بصدده الوقائع التالية:
- يزعم عبد السلام عارف في مذكراته التي كتبها بعد وصوله الى رئاسة الدولة في انقلاب 8 شباط 1963 الذي نظمه البعثيون والقوميون ومقتل قاسم وعدد من زملائه، وهي مذكرات نشرتها مجلة “روزاليوسف” المصرية، وشكك في صدقيتها الباحث حنا بطاطو بقوة ويرجح – بطاطو – أنها كتبت من قبل شخص آخر، أو أن عارف أملاها على محرر أضاف إليها هذا الأخير الكثير من عندياته، أنه هو – عارف- من أسس هذا التنظيم وقد جعل نفسه في مستوى رفعت الحاج سري في التأسيس وأنه هو من فاتح قاسم بالانضمام إلى التنظيم سنة 1954 /1955.
- هذه الحيثية التي وردت في مذكرات عارف يكذبها وينفيها بقوة تصريح لرفعت الحاج سري ورد في سجلات “محكمة الشعب” أدلى به خلال المحاكمة بعد أحداث الموصل، و أكد فيه أن عارف لم يكن ينتمي إلى تنظيم الضباط الأحرار في سنواته الأولى، أن الحاج سري فاتح قاسم للمرة الأولى بالموضوع في سنة 1956، أما بخصوص عارف فيؤكد الحاج سري أنه لم يلتق به إلا قبل حوالي شهرين من الثورة.
- ويؤكد بطاطو بناء على قراءته لملفات حكومية عراقية سرية كثيرة، سمحت له بمواصلتها السلطات العراقية بعد الثورة التموزية، وثمة اعتقاد أن بطاطو كان على علاقة مباشرة بعبد الكريم قاسم أو أنه التقى به خلال إحدى زياراته إلى العراق والتي كان قد بدأها منذ بداية الخمسينات، وهو الذي سمح له بالإطلاع على الأرشيف العراقي، يؤكد بطاطو إذن، أن قاسم كان يقف على رأس تلك الحركة “كتلة المنصورية” ويوجهها بشكل مستقل عن الحركة الرئيسية – تنظيم الحاج سري- وأنه، كما قال لشكيب الفضلي الذي أوفده الحاج سري لتفاوض مع قاسم في المنصورية بهدف تأمين مجموعته وضمان ولائها، أنه ليس موافقا على النظام القائم في تنظيم الحاج سري وأن لديه خططه الثورية الخاصة وأنه يتوقع مساعدة الآخرين فيه إن سنحت الفرصة للقيام بالانقلاب. الثلاثية /بطاطو /3-96.
3- التنظيم أو المجموعة الثالثة هي مجموعة عبد الستار عبد اللطيف وتضم ثمانين من صغار الضباط انضمت الى التنظيم قبل 14 تموز بعام تقريبا أي ببضعة أشهر على انضمام مجموعة قاسم.ويشير بعض الباحثين أن هذه المجموعة كانت متأثرة كثيرا بالقائد رفعت الحاج سري أكثر من غيره ونرجح أن المقصود بعبارة ” متأثرة بـ ” تعني أنه هو الذي كسبها وضمها الى تنظيمه الأم.
4-التنظيم الرابع : هو (اتحاد الضباط والجنود)، يعتبر أغلب الباحثين هذا التنظيم العسكري تابعا أو امتدادا للحزب الشيوعي ولكنه ضم لاحقا عسكريين وطنيين غير شيوعيين، وقد ورث جهود قديمة أثمرت عن تشكيل خلايا شيوعية في الجيش من قبل كل من زكي خيري ويوسف متي وبدرجة أقل حسن عباس الكرباسي وكان أشهر قياديه الملازم عطشان الإزيرجاوي عضو اللجنة المركزية للحزب. وقد كشفت المخابرات الملكية هذا التنظيم عام 1937، وحينها أصيب الحكم الملكي بالهلع وخشي شيوع وانتشار مثل هذه الأفكار إلى بقية مؤسسات النواة المركزية للسلطة ( الجيش). ( واعتقل 65 عسكرياً من المراتب، بالإضافة إلى الثلاثة المشرفين عليه. وقد تمت محاكمتهم عسكرياً وحكم على ثلاثة منهم بالإعدام رمياً بالرصاص استبدل لاحقا بالحكم المؤبد/ عقيل الناصري مقالة 2004). ويذكر مقصود /مصدر سابق، أن هذا الاتحاد بدأ كمنظمة صغيرة شكلها الزعيم ابراهيم الجبوري والمقدم جهاد عبد الواحد الاطرقجي وكانت منظمة سرية وطنية تسعى الى قلب نظام الحكم و اتخذا لها اسم (ميسوبوتاميا/ كلمة يونانية تعني بلاد ما بين النهرين)، وقد بقيت تلك المنظمة داخل اطار الفوج الثالث اللواء الرابع في الديوانية وعندما نقل – البياتي؟ – الى بغداد العام 1953 كانت تلك المنظمة تضم 23 ضابطاً. ويضيف مقصود معلومة أخرى مفادها أن المنظمة السرية تأسست في الفرقة الأولى من قبل الزعيم الركن اسماعيل علي آمر مدفعية الفرقة، وفاضل البياتي و وصفي طاهر ابن عم القائد الشيوعي زكي خيري والعقيد إبراهيم الجبوري، بعد الانقلاب الجمهوري المصري سنة 1952. أما ” اتحاد الجنود والضباط ” فيجزم مقصود بأنه تأسس سنة 1955 برئاسة الزعيم الركن اسماعيل علي آمر مدفعية الفرقة الاولى في الديوانية، وعضوية كل من الرئيس فاضل البياتي والمقدم وصفي طاهر والعقيد ابراهيم الجبوري . ويضيف مقصود أن اسم المنظمة أو قيادتها تم تغييره إلى “اللجنة العسكرية المتحدة الحرة” ويضيف مقصود معلومة لها دلالاتها الخاصة والتي تؤكد خرافية مقولة ” الضباط الأحرار فجروا ثورة 14 تموز” فيقول ( وحاولنا إقناع المقدم رفعت الحاج سري ورجب عبد المجيد وعبد الوهاب الشواف بالانضمام ورفضوا لكونهم ينتمون الى تنظيم آخر. و عمل ابراهيم الجبوري كضابط ارتباط بين منظمة اللجنة العسكرية المتحدة الحرة وبين المنظمة التي يرأسها عبد الكريم قاسم. مقصود / مصدر سابق).
هناك دراسة مهمة للباحث عقيل الناصري فرَّق فيها بين جناحين داخل هذا التنظيم هما “التنظيم الديمقراطي للضباط” و “إتحاد الجنود والضباط” وكلاهما يساري التوجهات وعلى علاقة بالشيوعيين، وهذه الدراسة وغيرها للناصري من مراجعي في هذا البحث وسأشير إليها بكلمة “الناصري”. وكان لهذه المنظمة – اتحاد الجنود والضباط- دور حاسم صبيحة 14 تموز، فقد كتب أبرز قادتها إبراهيم الجبوري عن أحداث ذلك الصباح ما يؤكد استقلالية هذه التنظيمات الثلاثة – تنظيم الحاج سري وكتلة المنصورية والاتحاد – عن بعضهما ودور الاتحاد في حسم المعركة ( قمنا بواجبنا حسب الاتفاق المبرم عام 1956 فوضعنا القائد – الموالي للنظام الملكي- جبار السعدي رهن الاعتقال، وخرجت مجموعة من منظمتنا بثماني دبابات دون عتاد، وعندما وصلوا إلى دار الإذاعة وجدوا دبابتين أخريين بقيادة (خزعل علي) وهو من تنظيمنا أيضاً. وعندما رأى عبد السلام عارف الدبابات صاح وهو يبكي: لقد انتصرت الثورة. ثم طلب منهم أن يتوجهوا بها إلى “أم الطبول” لمقابلة محتملة للواء – موالي للنظام الملكي – قد يزحف من المسيب. عقيل الناصري/ دراسة عن حركة الضباط الأحرار/ الحوار المتمدن 2006).
يتبع قريبا
*كاتب عراقي