صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

رسالة إلى الصديق الغائب ماهر جيجان

 

(لكي يكتب الكاتب بكل ما أوتي من معنى عليه أن يحكم على نفسه بالعزلة/ إرنست همنغواي)

 

ماهر جيجان، هو مسرحي عراقي، ولكنه، أسوة بعدد من المثقفين العراقيين المنسيين، مظلوم في حياته ومظلوم بعد الرحيل. واستمرار الظلم، الذي يمارس ضد المثقفين، هو آفة عراقية ـ عربية بامتياز، تستمر وتتمادى، من دون وازع، في كل الاتجاهات والاوقات وعلى كل المستويات، فهل ستتمكن الأجيال القادمة، عندما تتحرر وتحرر ثقافتنا من آفات التحلف والاستبداد والإقصاء، من إعادة الاعتبار ومن إزالة الظلم الذي يلحق بالثقافة والمثقفين؟

 

يا صديقي في كل مرة أجد نفسي مطالباً بالتوضيح من أجل عدم التباس القصد، وأن أهمس في أذنيك لشرح ما حدث قبل فوات الآوان، المسألة ببساطة لقد ضاق علينا الهامش وصارت الكلمات تحاكم قائليها وتشوه سيرة الماء بينما نحن نضحك في السر والعلن وبعد ذلك نجلس بعيداً كي نتبارى في وصف أحزاننا عسى أن نصل إلى مصالحة جديدة مع أرواحنا، ليتني كنت هامشاً فمن المخجل عادة أن يكتب المرء عن نفسه أو لصديقه أو عن ذكريات قديمة أو حتى أحلامه التي يتركها وراءه كلما تقدم به العمر، كل هذه تبدو أشياء هامشية لا تهم احداً إلا صاحبها، ربما الحديث عن الحياة والصداقة أو الأمل يكاد يكون حديثاً واحداً ذاك لأنني لست مولعاً بالتفسير أو المراثي ولكن المحطات العابرة هي التي تستوقفني، سنظل نتبارى في وصف أحزاننا وندافع عن ما تحمله من النبل.وعليك أن لا تنسى، منذ لقاءنا الأول في غرفة صديقنا الغائب الآخر الرسام عبدالرحمن الجابري بمدينة فلورنسا الايطالية صيف 1980، أن ما يشدُّ انتباهنا دائماً تلك الضفة، ضفة الحلم والأمل أو الكتابة التي نتقي بها خشونة الصلف والأقنعة السرية التي تخفي تلك الوجوه الخاوية من كل رصيد والقابعة هناك في أقصى الخيبة، كثيراً ما يلذ لنا أن نتحدث عن طفولة الحلم والشعر وعن كونية المسرح والعالم وأن نعيد في أذهاننا رسم الصورة التي طويناها ونحن نحلم بلون الورد وهو يطوق عنق العراق الذاهب إلى المجهول.

 

صديقي النبيل ماهر، لأنّك الأكفأ في تربية خجلي بمبادراتك الطيّبات، خذ تحاياي الكاملات أرسل بهنّ إليك، ممهورات بكثير حزن أو شوقٍ لا يمكن نكرانه يا صديقي، وهذا الشّوق ـ الحزن هو ما يؤجّج تلك الذّاكرة التي تؤرق وتفعل شديد أفعالها أحيانًا. على أنّنا، كأبناء وأصدقاء نجباء للفقد، درّبنا قلوبنا وحياتنا وموتنا المؤجل منذ وقت على ترويض الذّاكرة والجغرافيا بسياط الوداد والرأفة والمعنى، إذ يكفي أن تعبرَ من هنا لتنبتَ وردة في كلماتي أو بريدي الالكتروني، ويكفي أن تعبرَ ملامحي في خيالك الحاضر دوماً كي تقرأ وأقرا غيابك المفاجئ في مدينة برشلونة الاسبانية.

 

مازلتُ حيًّا يا صديقي، وهذا أمر مقلق، مرّة قرأت جملة لصديقنا الغائب كمال سبتي يقول فيها: (أعداء الشاعر في الحياة عليلون) وإذا كان لنا أن نستنتج ذلك، فيمكننا القول إنه يجب الحذر من كل عليل . على أيّة حال، دعني أحدثك بعد رحليك الموجع، بإيجاز، عن المكان الذي اقيم فيه منذ أكثر من 20 عاماً، المانيا بلد عظيم، وفتنته كامنة في مسألتين: الكآبة والجمال، وأنا بينهما أتمرّن على النسيان والصبر أو صياغة دلالات اللغة تماهياً مع عبارة الناقد الفرنسي جان كوهين: (اللغة دلالة) ومع هذا أكره لغة المكان ولا أستعملها إلاّ لضرورات حياتي اليوميّة وأحياناً لقراءة بعض الجرائد الالمانية اليومية أو مقتطفات من الشعر الالماني الحديث، وأقضي وقتي بفعل ما يتوجّب، قراءة وكتابة وبحث، كي أكون قادراً على الوفاء بالتزاماتي المعرفية وبشروط البقاء نظيفًا في هكذا بلاد . أمّا العمل الثّابت، هنا، فصعب، خاصّة لرجل مثلي، بلغ الـ56 من العمر، يطمح، رغم صرامة الشعب الألماني وبيروقراطية مؤسساته، أن يكون له مكان في جهة أدبيّة أو مؤسسة إعلاميّة المانية، أعرف ما ستؤول إليه الحال في قادم الأيام، إنّما في العام القابل سأسافر إلى مكان ما، أو هكذا يُفترض، ولعلّي سأجرّب حظّي في بلد آخر وأرى ما يمكنني فعله، وسأنسى في لحظة ما عبارة الشاعر قسطنطين كافافي: (وما دمت قد خربت حياتك هنا في هذا الركن الصغير/فهي خراب إينما حللت).

 

عدا ما سبق، أمرُّ بقلق روحي مزمن، ونقدي أيضًا، حيث أنّ موجة نقدية جديدة في طريقها إلى الصدور، وهي من أواخر نتاجي النقدي، وأفكر بالزجّ بها في دار نشر الصديق الشاعر ناصر مؤنس (مخطوطات) وآمل أن تأخذ مساحتها . هذا بعد أن كنتُ قد أصدرت قبل هذا: كتابان شعريان و(3) كتب نقدية، في نفس الدار، جمعت فيهما معظم نصوصي الشعريّة وقراءاتي النقدية المتناثرة هنا وهناك.

 

لا زلت، كما عرفتني في ثمانينات القرن الماضي، أكتبُ قراءات نقدية عن الرواية والشعر والمسرح وأنشرها هنا وهناك، أما الأمل في الحياة أو الاستمرار في الكتابة فما زلت أرمّمه بجهد مدروس وغير متعجّل.

 

أقرأ كثيرًا يا صديقي، أشعر بأنّي أقرأ في الفكر والتاريخ، وما زلت مواظباً على قراءة الفلسفة الألمانية أكثر من سواها لأنّها الأصدق كما كنت تقول، أكثر من قراءة الأدب والكتابة الإبداعيّة شعرًا وسردًا ونقداً، وهذا لا يروقني أبدًا إنّما أعتقد بأنّني خلال هذا العام والعام القادم أنجزت وسأنجز أشياء جيّدة، أو هكذا أحسبها الآن، لأنّها ستتركني وحيداً بعد إنجازها مثلما تركت الكثير من المشاريع والأحلام وحيدة على رفوف النسيان.

 

في رسالتك الالكترونية الأخيرة قلت لي: حدّثني عنك وعن الأهل وعن الحلم القديم، عن ابنتك الوحيدة أو قطعة الفردوس كما يحلو لك تسميتها، عن سفرتك الأخيرة لبغداد، عن أي شيء تودّ أن تكتب عنه لي، إن لم تجد ما تكتبه فدعنا نبصق على هذا العالم الموحش.

 

أخيراً لعل من الضروري اليوم أن نلحظ الوهن الذي أصاب البلاد، وما سينتج عنه من تقطيع لاوصاله، هذا الأمر يا صديقي ماهر لا يمكن شرحه برساله، بل لا بّد من اللجوء إلى اللغة التي فرضت التواءها على تعاكسات اللغة المستعارة وعلى الموت الذي اختطفك بلا حياء.

 

إقرأ أيضا