1
مثل من يطلب منه أنه يقول كلاماً نقدياً مفيداً أو فكرة، في مقال عابر، في مسألة معقدة ومتشابكة كالثقافة العراقية اليوم، دون أن يقع في آفات التبسيط والجزئية والإيجاز المخل بالمعرفة والتعميم المجحف، كمثل من ألقي في اليم مكتوفاً وقيل له: (اياك اياك أن تبتل بالماء) ويزداد الموقف صعوبة مع رسوخ اليقين بأن الكلام أو الكتابة عن الثقافة العراقية مرهون بميزان العلاقات المؤسساتية ومرتبط بمصالحها الفردية واستراتيجياتها العقائدية، وعلى هذا الأساس، وفي محاولة للحد من الثغرات النقدية والآفات، سنطرح بعض الاسئلة ونبحث، في الوقت عينه، معاً عن الأجوبة المؤجلة أو المستقبلية لأننا نعتقد أن كل كتابة نقدية هي نهوض من موقع يناقض الموقع السلطوي الذي يخص موضوعه، لا يعني حكماً عجز هذا الكلام على أن يكون نقدياً، وتبقى الأمنية شرطه في مطلق الأحوال.
ليس من العيب أن يراجع المرء في كل المراحل الزمنية طبيعة افكاره أو رؤاه وما يستجد عليهما من تحولات ايجابية نتيجة التراكم المعرفي، فالفكر هو الشيء الوحيد الذي لا يتغطرس، إنما يخطأ وعليه يجب تصحيح هذا الخطأ، سواء كان مقصوداً أو متعمداً ولا ضير في ذلك، لكن الإصرار على الخطأ هو الذي يحوله ويضعه، في الوقت نفسه، بمصاف الغطرسة. قد يجد المرء في العراق بشكل خاص والعالم العربي عموماً أمثلة عديدة على هذه الغطرسة التي نصطلح تسميتها بالغطرسة الثقافية المقيتة المتفشية في الأحزاب والأفراد والطوائف الذين يتوهمون أن رأيهم أو سلوك حزبهم ـ طائفتهم هو الرأي مطلق الصواب ويرون فيه أيضاً الحقيقة المطلقة المنشودة وإلى الأبد، كأننا نعيش في عهد قديم مستعاد، من هنا تنشأ، كنتيجة طبيعية، غطرسة التقاليد البالية والأعراف الحزبية المغلقة التي لاتقل غطرسة عن الأعراف الاجتماعية والعشائرية التي يجب الانصياع لها ولأحكامها التعسفية، لقد تأصلت هذه الغطرسة كما هو معروف منذ زمن بعيد ونستطيع أن نطلق على هكذا سلوكيات بالموروثات السيئة البالية التي بدورها أكسبت الاجيال المتعاقبة وأورثتها أيضاً الكثير من الامراض الروحية والنفسية المستعصية، بحيث نمت هذه الغطرسة بشكل مضخّم في الإيمانات العقائدية والوطنيات المزيفة وحتى في القوميات العنصرية الهوى والسلوك معاً ومختلف ما يمكن وصفه بالمطلقات الكبرى ومتفرعاتها من المذاهب الطائفية وغير ذلك.
كل هذه الأسماء أو المسميات الواقعية المشار إليها، جعلت الأمور تتفاقم حتى وصلت إلى مستوى المعضلة المزمنة التي لا شفاء منها، وربما تجاوزتها إلى أبعد من ذلك، لأنها قد نشأت وازدهرت في ظل الحكومات القمعية المتعاقبة والعقليات المتعجرفة منذ بداية القرن الماضي وحتى اللحظة الراهنة، وغالباً ما كانت هذه المطلقات المتمثلة كما ذكرنا أعلاه بالعقائد والمذاهب والثوابت الثقافية، الدينية، الطائفية والحزبية تتماهى وتتمادى بطريقة سمجة خصوصاً تلك المتعلقة بالغطرسة الفارغة من كل مضمون فكري رصين تجاه الرأي الآخر، وبالتالي سيكون في هذه الحال صاحب العقيدة الحزبية أو ما شابه ذلك من نعوت عقائدية ومواصفات حزبية أخرى على صواب دائم أو مطلق بينما سيكون الآخر، أيا كان، دائماً على خطأ حيث تكون رؤاه وأفكاره وكتاباته مارقة وهدامة وبالنتيجة سيكون هدفاً سهلاً للتشويه النقدي أو الإقصاء وربما للتصفية الجسدية وكأننا في حرب إبادة متواصلة على المفكر المغاير أو الفكر الحر إلى أن يُقاد صاحب العقيدة إلى الجنة في الحياة والآخرة كما تنص عليه تعاليم حزبه أو أشياعه بينما ينقاد ذو الرأي المعارض إلى الجحيم وهذا الأمر قد أجتمع ويجتمع أو قد تمركز ويتمركز في أغلب الأحيان في قوة، أو مكان، أو زمن ما، متمثلاً بنظام بوليسي أو بدولة عقائدية لا يتغير منها وفيها سوى (الأغلفة) كما يحدث اليوم في حالة العراق (الجديد) وفي هذا خطورة بالغة قد لا تنتهي في القادم من الأيام.
2
مع دخول العراق اليوم مرحلة غريبة ترتبط بأحداث دراماتيكية وتغيرات سريالية جرت وتجري على كافة الأصعدة جعلت الثفافة تمرّ في ظروف خطيرة تميزت باختلال كبير في التوازنات الحياتية المتعلقة بالمعرفة والفكر بحيث ضعُف دور المثقف ولم تتحقق لديه كما كان يأمل نبؤة (فرانسيس بيكون 1561ـ 1626) في قوله المأثور الذي يعرفه و يردده الكثيرون من أن (المعرفة قوة).
وبهذا تم تجاوز القيم المعرفية والمبادئ الإنسانية وحتى المعايير الرصينة التي هي أساس العلاقات الحضارية المتمدنة القائمة بين الأفراد داخل المجتمع الواحد الذي هو جزء لا يتجزأ من الأسرة البشرية بشكل أعم، لقد كنا نتصور أن نهاية (الحكم الأسود) في العراق قد مضى إلى غير رجعة، لكن ظواهر هذا الحكم بقيت بارزة متأصلة في السلوك الجمعي المتمثل بازدياد تفـرّد المتحزبين والمعممين وحتى الحالمين الواهمين بعودة الماضي (التليد) وجموحهم الشهواني للتحكم بالثقافة ولجوئهم في سبيل تحقيق ذلك القوة المفرطة، كما حدث في تلك الأيام الغاربة، وكل أنواع التهديد والتصفية والقتل الحديث، زاعمة أنها بدورها وسلوكها الفج هذا تجسّد قوة الخير، كما تعتقد، الهادفة إلى استئصال الظلام في العقول والنفوس والمجتمع والقضاء عليه غير أن ما يحدث الآن ليس سوى غطاء لإخفاء ما هو أبعد من مكافحة (الظلام والظلاميين) كما تسوقه وسائل الاعلام الرسمية الموجهة التابعة لهذا الحزب أو لتلك الطائفة أو القومية. وهذا الأمر بات معروفاً لمن ينظر بضمير خالص أو قلب صاف حتى وأن كان أعمى، فالأهداف الحقيقة التي ترمي إليها بعض الطوائف والأحزاب والقوميات تتلخص بإقامة نظام قمعي جديد بوسائل حديثة وبدمى بديلة أكثر إناقة من تلك الدمى القديمة.
ثمة تأكيد راسخ في تقاليد الغطرسة الثقافية مفاده، أن المتحزب هو الأصل بينما الآخر المغرد خارج الحزب/ السرب هو الخصم اللدود الذي يهدف إلى قلب الطابع المقدس للتقليد الحزبي لصالح الطابع العدمي المتمثل بفكره المتحالف مع (الامبريالية)، وبهذا ستترسخ بصورة أكبر عملية الاستنساخ (الغطرسي) من غطرسة، وعليه سيسعى العدميون (الامبرياليون الجدد) إلى التمسك بالوهم لغرض تحويله إلى حقيقة عبر إعادة إنتاج وجودهم العدمي، فالمثقف ليس تابعاً لاحد كما يودّ البعض أن يفهم ولا حليفاً لاحد كما قد يتصور البعض، إنه جزء عضوي عدمي إنقلابي عبر تداخل الضمير والموقف والرؤية.
3
كثير من الكتب، الصحف، المجلات الدورية، الشهرية والفصلية التي تصدر الآن بالعراق مثلما هي الكتابات الغزيرة التي بدأت تأخذ فرصتها من النشر والمتابعة النقدية، وفي بعض الأحيان تأخذ أكثر من ذلك بغض النظر عن أهمية هذه البحوث والكتابات أو الكتب الصادرة بمختلف اتجاهاتها المعرفية وقيمتها الإبداعية والفنية، ثمة فرصة جديدة أتيحت لظهور الكثير من النتاجات الأدبية الجديدة التي حظيت، أيضاً، بفرصة الإشارة إليها والتعريف بها وهذه مسألة تستحق الثناء لما تملكه بعض هذه النتاجات من المغايرة أو المشاكسة والإبداع، لذلك يجب أن لا نستغرب مما نرى ونقرأ ونسمع، لأن ذلك الأمر كان متوقعاً وربما ضرورياً أيضاً.
وحتى نزيح الأوهام ونطردها، ونقلل من التصاعد الكمي نسأل: هل الدور المنوط بالثقافة الحقيقية قد ظهر بسرعة بعيداً عن أجندة المؤسسات النفعية ذات الطابع التعبوي، أم أن الغطرسة الثقافية مازالت قائمة، وبأشكال مختلفة؟ وهل سيفضي هذا التراكم إلى ترسيخ تقاليد ثقافية جديدة بعيدة كل البعد عما كان سائداً في الفترة الماضية؟
هذا هو السؤال، على ما يبدو، الذي يتطلب التحريض عليه من جديد، فبالتحريض المعرفي تمارس الكتابة النقدية علاقة اختلاف مع الكتابة نفسها، وبالتحريض نضع الكتابة طرفاً مقابل طرف آخر هو هذه المرة المعرفي المكتوب، وبهذا تعيش الكتابة حركة التغيير، لكي لا تماثل الحاضر بماض مماثل.
مثلما غابت الثقافة الحقيقية المبدعة عن الوسط الثقافي العراقي، لاسباب لم تعد خافية على أحد، طوال العقود الماضية، فإن الديمقراطية المزعومة قد غيبت هذا الطموح الجامح للتغير من جديد، وربما بصورة أكثر حدة وبحجج مختلفة، باعتبار أن الغطرسة الثقافية التي تم اعتمادها سابقاً لم تُقتلع جذورها بعد، وبدلاً من محاولات الترميم والتصحيح للجسد الثقافي المريض تم الإجهاز عليه مجدداً، وتحت شعارات لا تختلف عن شعارات الماضي في أغلب الأحيان، فهناك الكثير من المؤسسات الثقافية مازالت تتذرع بفساد الأحزاب والأشخاص لترسخ عملية الغطرسة بدل تجاوزها، فلقد شرع الباب لكل من جاء مع حزبه، مظلوميته، تجربة (النضالية) الواهمة الزائفة، قوميته، طائفته وعلاقاته الحرباوية المتلونة حسب الفصول لكي يجهز على كل ما كنا نحلم به من إعادة الحياة الثقافية إلى حالتها الصحيحة الصحية التي غُيبت فيها وخلالها اسماء مهمة نعرفها ويعرفها الآخرون لاسباب باتت واضحة ومعروفة لمن يبحث عن إجابة وهكذا نلاحظ أن الثقافة الحقيقية كانت هي الضحية في كل العهود، وفي هذا المناخ يمكن للغطرسة أن تكون عاملاً جديداً وهاماً في استعادة وبناء ثقافة الإقصاء وإحياء حالة التظلم المقيتة من جديد فمن خلالها ستتراكم المأساة وتتنوع الوجوه المقنعة المهيمنة لتتوزع من جديد أيضاً على المنابر والمؤسسات الثقافية والإعلامية لاعتبارات حزبية وطائفية وقومية ساهمت وتساهم في تسييد الرأي الحزبي أوالصوت الواحد وأضطهاد المخالفين الأمر الذي سيؤدي إلى تراجع دور الثقافة الحقيقية وتهميش دور المثقفين مجدداً.
وهنا نسأل ولا نستفسر فالسؤال غير الاستفسار بتعبير العلامة الراحل على الوردي (السؤال قوة والاستفسار ضعف)، ولكي تكون الأمور في نصابها، وليس في يد نصابيها، علينا أن لا نتوقف عن الأسئلة فهل ستكون إجاباتنا النقدية المؤجلة ممكنة على هذا الكم الهائل من الاسئلة الثقافية:
لماذا كل هذه الغطرسة؟ لماذا كل هذا الضعف والخوف والتردد؟ متى نتخلص من أمراضنا المتشعبة والموروثة؟ متى نتخلص من تقديس من لا يستحق القداسة؟ متى نمحو من قاموسنا القديم والمستعاد كلمة القداسة؟ هل سنرى نزعة تحديثية، على مستوى الكتابة، رافضة لثقافة الماضي؟ هل نستطيع أن نستشرف سؤال الثقافة الغائب، من جديد، في سياق التحولات السياسية الدراماتيكية والفوضى الثقافية الراهنة؟ هل ثمة جدوى أو أمل لسؤال الثقافة الغائب وجواب النقد المؤجل راهناً ومستقبلاً؟ يبدو أنه من الصعوبة بمكان التكهن بإجابات نقدية مجردة أو بمستقبل هذا السؤال، المشار إليه سلفاً، ذلك لأن الفوضى العارمة أدت وستؤدي، في قادم الأيام، إلى ارتفاع منسوب اليأس وتقليص حجم الأمل واختزال الأحلام القديمة أو قمعها من جديد.