منذ أن شعر بأنه مقيم في قوقعة النسيان والإهمال، لم يتوقف سعدي يوسف عن حفر آبار اللغة “الجوفية” والسوقية لاستخراج ما علق في قاعها من مفردات بذيئة لكي يحوّلها، بماكنات سخطه وإحباطه، إلى قذائف معبأة بالشتائم ضد الجميع تقريباً!!.
وهنا لا بد من القول بأن الذي يفتح حرباً ضد الجميع “تقريباً” ويهشّم محطات تاريخه ويحرق غالبية سفن ذكرياته وعلاقاته السابقة لا بد أن يكون بالضرورة مغتسلاً بأزمة نفسية حادة وصارخة، ولا شك أن كل مَن يضع مجهراً موضوعياً على “شتائم” و”هلوسات” سعدي يوسف الأخيرة سيكتشف حتماً جذر تلك الأزمة النفسية الحادة التي يتدثر بها “الشيوعي الأخير” منذ سنوات عدة، وهي أزمة يمكن أن تختصر بكلمتين: مقاومة النسيان.
لقد شعر الرجل – ببساطة شديدة – بأنّ قطار العراق الجديد لم يتذكره ولم ينتظره على الرغم من وقوفه الطويل في المحطة وهو يحمل بيده تذكرة السفر ويبتسم!!. هذا الأمر – ببساطة شديدة أيضاً – دفع سعدي إلى أن يكون أشبه بالطفل الذي يلطّخ ملابسه بالوحل لكي يلفت انتباه والديه ولكي يعاقبهم أيضاً!!.
باختصار: إن العراق الذي لم يلتفت إليه وهو مهذب ومتأنق ومبتسم في المحطة لا بد أن يلتفت إليه وهو يغتسل بالوحل ويستحضر نفايات اللغة ليفتح صنبور الشتائم ضد الجميع، وبالأخص ضد رفاقه الشيوعيين الذين “خذلوه” و”تناسوه” في غمرة انشغالهم بـ “كعكة المحاصصة”.
هذا الأمر يمكن أن يفسر كل تناقضات سعدي الصارخة وتحوله من داعية لإسقاط صدام وتحرير العراق بقبضة غربية عسكرية إلى ناطق شعري باسم “المقاومة الشريفة!!” التي لم تكن سوى خزان إرهاب منظّم وممنهج. وذلك فضلاً عن خيانته لعنوان “الشيوعي الأخير” الذي أطلقه على نفسه ليتحول في “هلوسته” الأخيرة إلى عاشق “العروبة” الأول بنسختها “القومجية” العنصرية!.
ماذا يمكن أن يفعل غير ذلك، بعد أن تعطّلتْ ماكنة الدعاية الإيديولوجية التي أنتجتْ صورته الشعرية المضخّمة والمعبأة بالمبالغة والشائعات كجزء من حمّى الصراع الإيديولوجي – الثقافي بين الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث العراقي؟!.
ماذا يمكن أن يفعل غير ذلك وهو يرى بأمّ عينه فجيعة نضوب الشائعات التي انتجت “أسطورته الشعرية!!” بعد هبوب رياح العولمة وبزوغ الهلال الدموي لتيارات الإسلام السياسي؟.
إن سعدي يوسف بالنهاية هو ضحية الماكنة الإيديولوجية التي بالغت في إنتاجه ثم بالغت في نسيانه، الأمر الذي دفعه إلى مقاومة هذا النسيان بالشتائم.