الوجودية فلسفة تقوم على اعطاء مركزية للانسان في هذا الوجود، اي انها فلسفة تعنى بالانسان الفرد، وتنطلق من الانسان الفرد، وغايتها الانسان الفرد، وهي من الفلسفات القائلة بأصالة الوجود في مقابل الفلسفات التي قالت بأصالة الماهية.
تركزت موضوعات الفلاسفة الوجوديين حول: الذات، الحب، الايمان ، الضمير، القلق، اليأس، الموت… وبعض الباحثين لم يعتبر هذه الموضوعات لها علاقة بالشان الفلسفي، ومصطلح الوجودية نشا في ظروف الاحتلال النازي لفرنسا، واستخدمه جان بول سارتر، ومن هنا نجد اهتمام سارتر في كتاباته بهذه المسائل.
يعد الفيلسوف الدنماركي المسيحي “سورن كيركگورد” أبا للفلسفة الوجودية، ومؤسساً للوجودية المؤمنة. عالج كيركگورد في كتاباته: الفرد، الحب، الايمان، والقلق، والخوف، والموت. في تناوله لموضوعة الايمان، يرى كيركگورد: ان الايمان لايقوم على الاستدلال، والاستقراء، وعلوم الطبيعة، وانما هو تجربة ذاتية فردية، وهذه الرؤية الكيركگوردية للايمان هي نفس الرؤية التي يراها المتصوفة والعرفاء، وهي نفس الرؤية التي تبناها باسكال عن الايمان، يقول باسكال: “ان الايمان هو معرفة الله بالقلب دون العقل، وان للقلب دليله الذي لايستطيع العقل ان يفهمه”.
وهذه الرؤية للايمان شدد عليها المفكر الاسلامي العراقي عبدالجبار الرفاعي في كتابه الرائع والمتميز “الدين والظمأ الانطولوجي”، فهو يؤكد على أن الايمان يعبر عن حاجة عميقة لكينونة الكائن البشري، وهو يمثل الظمأ للمقدس، وهذه الحاجة والظمأ لايسدها ويلبيها ويرويها الا الايمان.
ومن هنا نجد شبها وتقاربا في الرؤية بين المفكرين كيركگورد والرفاعي. كلاهما يشدد على أنه بالمحبة والايمان يستطيع الكائن البشري استرداد ذاته الضائعة. وانه من خلال ايمان المحبة ومحبة الايمان يتحرر الانسان من اللامعنى واللاجدوى والعبثية والقلق والخوف، ويظفر بالسلام الباطني والطمأنينة والسكينة.
المفكر عبدالجبار الرفاعي، أولى كيركگورد اهتماما خاصاً، وتفاعل مع تجربته، واحتفى بذكراه. اذ خصصت له مجلته “قضايا اسلامية معاصرة” العدد المزدوج (55-56)، وهي المجلة العربية الوحيدة التي احتفت بمرور مئتي عام على ولادة هذا الفيلسوف المؤمن، فنشرت مجلداً يدرس أفكاره ورؤاه وفلسفته الايمانية، بما يقارب 500 صفحة، استوعب مساهمات مترجمة عن الدانماركية والألمانية والانجليزية والفارسية فضلا عن العربية، لفلاسفة وباحثين خبراء غربيين وشرقين من المختصين بفلسفة كيركگورد الايمانية.
كما ألف الرفاعي كتاباً حول فلسفة كيركگورد الايمانية، تناول فيه تجربته، اتسع لعدد من البحوث المكتوبة بأقلام مفكرين وفلاسفة حول كيركگورد، أسمى كتابه “الحب والايمان عند سورن كيركگورد”.
إن الاهتمام بكيركگورد يحظى بأهمية خاصة، وذلك لأن كيركگورد قدم رؤية ايمانية للفلسفة الوجودية، يطلق عليها “الوجودية المؤمنة”، وعالمنا اليوم عالم الصخب والضجيج، عالم توارت فيه القيم الروحية تحت سطوة المادية الطاغية، والوجودية المؤمنة محاولة لاسترداد الذات الضائعة، والكشف عن حاجة الكائن البشري للايمان كضرورة لازمة لكينونته وخلاصه من القلق والخوف والضياع.
الوجودية المؤمنة أولت الانسان عناية خاصة، وأعطته موقعا مركزيا في الوجود. الله تعالى أعطى الانسان موقعا مركزياً متميزاً في هذا الكون، وشرّفه، وأسجد له ملائكته، وكرمه ايما تكريم. يقول تعالى: “ولقد كرمنا بني ادم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا”. الوجودية المؤمنة نلتقي معها بأكثر من نقطة التقاء.
مشكلتنا مع الوجودية الملحدة اللادينية، كوجودية سارتر.
موطن الالتقاء الآخر الذي يلتقي به عبدالجبار الرفاعي مع كيركگورد، ان بدايات الاثنين فيها نقاط شبه كثيرة، وتعليمهما متشابه، اذ ان كليهما يمتلك تحصيلا عالياً في علوم الدين واللاهوت، فكيركگورد تربى تربية دينية، وتعلم اللاهوت، وعبدالجبار الرفاعي درس في الحوزة وبرع فيها، وأصبح استاذاً من أساتذتها، إذ درس فيها علوم المعقول والمنقول، وكتب بعض الكتب التعليمية لتلامذة الحوزة.
كيركگورد تمرد على الكنيسة وطقوسها التي جردت الدين من محتواه، وافرغته من مضامينه، وعبدالجبار الرفاعي دعا الى تطوير تقاليد التعليم في الحوزة وتطوير مناهجها، وكل منهما رفض استغلال الدين والمتاجرة به لتحقيق مصالح شخصية أو فئوية.
ومن نقاط الاشتراك بين الرجلين، أن كليهما أكدا على النزعة الانسانية في الدين، فكيركگورد حارب الفساد في الكنيسة والجرائم التي ارتكبتها باسم الدين، وعبدالجبار الرفاعي تصدى للجماعات التكفيرية التي اختطفت الدين، وسلبت منه روحه وانسانيته وجماله. كل منهما دعا الى الحب، واشاعة ثقافته، فكيركگورد دعا الى الحب، وألف كتاباً عن الحب اسماه “أعمال المحبة”. وعبدالجبار الرفاعي يرى الحب دينا يدين الله به، إذ يكتب عبدالجبار الرفاعي: “الدين الذي اعتنقه هو الاسلام الانساني، الرحماني، الدين فيه هو الحب، والحب فيه هو الدين”. وهو ماورد عن الامام الباقر (ع): “وهل الدين الا الحب”.
كيركگورد يرى ان الايمان له منطقه الخاص الذي يأبى ان يحصر في قوالب وانساق فلسفية مغلقة، ففي قضية الأمر الالهي لابراهيم بذبح ولده، الفيلسوف كانط رأى ان ماقام به ابراهيم من حمل السكين لذبح ولده عملا “غير اخلاقي” ، لكن كيركگورد، قدم تفسيراً آخر، قال فيه: بأن اقدام ابراهيم على ذبح ولده عمل غير اخلاقي وفقاً لقانون الواجب الاخلاقي، الذي قال به كانط. اما وفقاً لمنطق الايمان الذي لايخضع لقانون فهو عمل سام ونبيل.
وانا اجيب عن اشكال كانط باجابة غير التي أجاب بها كيركگورد، وهذه الاجابة استوحيتها من مبحث الأمر عند الاصوليين، فالأوامر عندهم على ضربين:
أولا: أوامر يراد منها تحقيق المأمور به خارجاً، كأوامر الله للمكلفين بالصلاة والصوم والحج، فالله يريد تحقيق هذه الأشياء المأمور بها خارجا.
ثانيا: وهناك ضرب آخر من الأوامر لايريد الله منها ان يتحقق المأمور به خارجاً، وهي ما أطلق عليه بالأوامر الامتحانية، وعلى هذا الاساس لايعد ماقام به ابراهيم (ع) عملا غير أخلاقي، لأن الله لم يرد من خليله ابراهيم تحقيق المأمور به خارجاً، أي لم يرد منه ذبح ولده، بل أراد اختبار ابراهيم (ع) ليرى الناس صدقه واخلاصه.
هناك اكثر من نقطة التقاء، وهناك نقاط افتراق بين كيركگورد وعبدالجبار الرفاعي. وهذا هو شأن الأفكار تقترب وتبتعد، وتتلاقى وتتقاطع. فمثلما هو كيركگورد ينسج الرفاعي رؤية للصلة العضوية بين الحب والايمان، وكيف يتغذى كل منهما بالآخر، فيصير الحب ايماناً، والايمان حباً، إذ يشرح الرفاعي ذلك قائلاً: “كنوزنا مختبئة في قلوبنا، وأنها لا تسفر عن جواهرها إلاّ بالحب. الحب يكرس الايمان،كما الايمان يكرس الحب، فلا ايمان بلا حب. الايمان يعيد خلق الحب في طور وجودي أعلى. الايمان في أسمى مراتبه يتسامى بحبنا ليصبح مشابهاً لحب الله لخلقه. على الدوام ما نربحه نحن دعاة الدين بالحب، يخسره غيرنا من دعاة الدين بالموت والحرب. السفر مع الأرواح الحرة أغنى الأسفار، ذلك أن الأرواح الحرة ضمير العالم، بينما الأرواح الشريرة خيانة العالم. سفرنا مع كيركگورد يدلنا على أن الايمان ضرب من العشق، وأن كل عشق حماسة، لحظة تذبل الحماسة، يموت الايمان. لذلك ينبغي الحذر من التشبث بمسالك اللاهوتيين، التي تطفئ حماسة ايماننا، وتنهك عقولنا، وتستنزف قلوبنا، وتقدم لنا مفاهيم ومقولات محنطة تشرح الايمان، بينما تفشل في انتاج حقيقة الايمان، وجني ثمرات وجوده في حياتنا”.
الشيخ زعيم الخيرالله: كاتب عراقي مقيم في كندا.