بينما كان يعلو صخب الكتابة التعبوية المتهللة، بأمجاد الحرب، طرباً يغدو السؤال النقدي عن مستقبل أو طبيعة النص الشعري المضاد للحرب ضرباً من السخرية المرّة الموازية لثقافة الصوت الواحد وكتابها وأبواقها ودواوين معاركها، غير أننا نطرح السؤال ذاك، لأننا نعتقد، الآن أكثر من أيّ وقت مضى، أنه يساوي، بالضبط السؤال عن ماهية الشعر ومواقف الشاعر المغايرة وذاكرته الشعرية المتماهية مع ذاكرة القارئ .
لن نجادل الدعاية الثقافية التعبوية، في تلك الأيام، كثيراً وسنكتفي قبل أن نشرع بالبحث عن النصوص المضادة للحرب، ببضعة ملاحظات نراها ضرورية في هذا المقام، كنا نرى المشهد الشعري التعبوي الغارب، ونفهمه جيداً وندرك توجهاته وأشياعه، فبينما ترقص الثقافة التعبوية، بمزيد من التهليل والتمجيد، على آلام البشر، كان على الجانب المضاد نصوصاً تتأمل الخراب وتجتهد في أن تفصل بين الكتابة الشعرية بوصفها عملية مضادة للخراب الذي تخلفه الحروب، وبين الكتابة الشعرية الممجدة لهذا الركام الهائل من الخراب والموت .
للوهلة الأولى، وفي مناخ صخب الدعاية المتصلة بالكتابة التعبوية ويأس الاستسلام لها، يبدو من الصعب دحض منطق الدعاية تلك خاصة وأن المنطق ذاك يستند، وهذا مصدر قوته، إلى القمع والإقصاء وإلى ركام هائل من الأسماء (الأبواق) الشعرية والنقدية العقائدية، ومع هذا لم يصمد شعر الحرب التعبوي ولا نقاد الحرب، ففي لحظة زمنية ما تلاشت هذه النصوص، وتلاشى نقادها لأن الدعاية تظل دعاية مثلما يظل النص الشعري المضاد للحرب قائماً وصادقاً ومتحركاً في كل الأزمنة، وهو بلا شك، أيضاً، نص مغاير .
تذكارات من شجرة الحرب، القصيدة التي تنبش شيئاً فشيئاً عن أبجدية الحدث من خلال إشاراتها اللغوية ودلالاتها وصورها الجمالية، تحاول أن تتسامى للوصول إلى نقطة الارتكاز في أبجدية الحدث نفسه لتلقي في ابجديتها اللغوية الكثير من الإشارات الرمزية التي تربك المتلقي وتجعله فــي حالة شحذ لعملية تبادل الأشكال المعرفية النقدية بين القصيدة بكل تفاصيلها اللفظية ودلالاتها ومضامينها الفكرية والجمالية من جهة وبين ذائقة التلقي المجردة من جهة أخرى .
الفصل الذي أتناوله هنا والمعنون (شجرة الحرب) يضم (8) قصائد متطابقة مع إشاراتها الفنية وإيحاءاتها الفكرية، تناولت الحرب العراقية ـ الإيرانية انتقيتها، لاعتبارات فنية محضة، من المجموعة الشعرية للشاعر العراقي جمال جمعة المعنونة (الرسم بالمدن/ الطبعة الثانية/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ 2010) وتتعلق جميع هذه القصائد بالتفاصيل أو الجزيئات المتصلة بتداعيات الحرب واسقاطاتها المختلفة، وقد كُتبت هذه القصائد أثناء فترة الحرب المشار إليها أعلاه، من هنا حاولت أن أتتبع الأصوات البعيدة التي أسقطتها قصائد الشاعر مع دقات طبول الحرب التي أهتزت لايقاعاتها المفزعة، هلعاً، دقات القلوب وهذا ما صوره الشاعر بصورة واضحة في القصيدة المعنونة (من دق على بابي: رَزَمتُ عينيَّ وأخفيتُهما وسمرتُ بالخوف باب قلبي/ فإن جاءت الحرب تطرق بابي/ أخبروها بأني خائف كأي رجل أعزل بلا عينين)، فالحرب، بمتاهاتها الغريبة وأدغالها الموحشة وإسقاطاتها الشرسة، تدمر الحياة وتفتك بالحرث والنسل إضافة الى افرازاتها الأخرى على الإنسان بوصفه وقودها المستمر، وحين تستعين الحرب الغبية بالبشر على تعلم العمليات الحسابية ترتبك الأشياء وتتحول كينونة العائلة، باعتبارها الركيزة الأساسية للمجتمع، إلى رقم عابرلا يهتم به أحد وتتعرض في نفس الوقت للمطاردة والتهديد والموت ولكن بطريقة الحرب الحسابية التي تبيح الضرب والتقسيم والطرح والجمع حيث تتحول العمليات الحسابية إلى عمليات عسكرية، حتى وأن أبدت اهتماماً عابرا للنتائج، فإن ذلك الاهتمام المفتعل أو العابر لم يعد أكثر من كونه نوعاً من التمويه الذي تتقصده ماكنة الحرب بطريقتها الحسابية القاسية ونستطيع تتبع ذلك، أعني الطريقة الحسابية في الحرب، في القصيدة المعنونة (الرياضيات الحزينة: حين كفت الحرب عن ان تكون اميّة/ استعانت بعائلتي في تعــلم الحساب/ خمسة ــ واحد = أربعــة…. واحد ـ واحد = صفر).
وهكذا تستمر العملية الحسابية القاتلة إلى أن نصل للصفر، أي قسوة حسابية تلك التي تمارسها الحرب؟ ومن هنا، أيضاً، ينبغي أن نعطي للمعنى الشعري دلالاته اللغوية بما يجعله يتماثل مع الإشارات الرمزية المتصلة بالنص نفسه، وهذه الحالة توصل القارئ إلى تفسير الدلالة أو تلمس المعنى الشعري في نص آخر، مجاور للنص أعلاه، يؤدي، من وجهة نظرنا، إلى انعكاس إشارات التفسير، لنقرأ هذه الإشارة في هذا النص المعنون: (أغنية قلبي تحت المطر والليل: يا سيدُ/ أيها الجنرال العجوزُ/ كم شمساً قتلتَ/ لتنالَ كلَّ هذه النجومِ؟/ يا مسكينُ يا قمرُ/ ماذا رأيتَ الله يفعلُ/ أيها الماكرُ ليجعلكَ بعينٍ واحدةٍ؟).
كوابيس الحرب أو الاحتمالات بحدوث شيء ما تجعل من الإنسان قلق أو وحيد يواجه مصيره بشكل منعزل وهو يحاول استعادة تفاصيل لا حصر لها تتعلق بحياته وعلاقاته، الغرض منها الاحتيال على الموت ومن بين أهم هذه الممارسات التي يحتال بها الإنسان للتخلص من الحرب بصورة قصدية الحلم الذي بدوره قد يُمكنه من تناول جرعات مهدئة يستطيع من خلالها التغلب على كوابيس الموت وقسوة ليالي الحرب الموحشة ليتغلل في نهاية الأمر بطريقة هستيرية شبقة إلى أقصى حافة لنهاية الأحلام ذاك، لأن ممارسة الأحلام تعد من الوسائل الوحيدة المتاحة التي لا يمنعها الرقباء وهذا أورده الشاعر في قصيدته التي حملت عنوان (الحرب: هبط الليل وأرتفع المطر/ فقضى الجنود ليلتهم فـي الخنادق محاولين الحلم بالمدن والبيرة والشعر الطويل).
وفي كل مرة يكون التنقيب عما خلفته الحرب من موت ومن تفاصيل أخرى تحولت بفعلها الحياة الإنسانية الى ما استطيع تسميته بموت الرمز أو الركيزة التي تمثل حالة التواصل الإنساني بكل أبعاده الروحية داخل تلك الأطر الأسرية المتمثلة بالحياة الدافئة وديمومتها أو نبضها الوجداني وهذا بدوره جعل الكثير من الأسر العراقية تفقد بصورة قسرية احد افرادها، وأحياناً أكثر، كضريبة يجب تسديدها لذنب لم يكونوا يوماً ما سبباً في اقترافه وهذا التوصيف الدقيق أورده الشاعر في هذا الجزء من قصيدته المعنونة (عيون واسعة وبلون القهوة):
(جاءت الحرب/ دخلت المدينة/ ورأت الرجل/ فأخذته/ وخلفت ستُ عيون واسعة وبلون القهوة وأباً ميتاً)، فما بين الخوف من الموت الكامل ونصف الموت هناك اتصال مشترك في الحرب هو الموت نفسه لذلك انبثقت من حالة الخوف دلالتان الأولى، هي الموت الذي يأتي نتيجة رصاصة طائشة أو شظية عمياء.
أما الثانية، فهي تلك التي تتمثل بالموت البطيء بسبب ما يراه المرء من مخلفات الحرب المتمثلة بتفاصيل لا حصر لها كالأرامل، القتلى، الأسرى والاستغاثات المريرة التي لا طائل منها وقد صور الشاعر هذه المشاهد المروعة في الجزء المعنون من قصيدة (جنود) بشكل مختلف وهو الأسلوب الذي اعتمده الشاعر للوصول إلى ترصين نصوصه بما يتلاءم وبشاعة الحرب إذ يقول: (الجندي الأول الذي ذهب للحرب لم يكن خائفاً فمات بأكمله/ الجندي الثاني الذي تبعه كان نصف خائف ففقد ساقيه/ الجندي الثالث الذي كان سيليه كان خائفاً جداً).
هذه التذكارات تتمتع بفرادتها الفنية في وصف بشاعة الحرب، فهي تتعامل مع الإنسان بطريقة وحشية تستدعي منه أحياناً أن يقوم بصورة قسرية بتقديم الضرائب استجابة لشرطها القسري كما أسلفنا، هذا الشرط الثقيل كأي ضيف غير مرحب به بتعبير الشاعر، وهي هنا تقوم بتمديد اقامتها إلى أجل غير مسمى لتحصد بطريقتها الهمجية الكثير من الأبرياء، ومن مزايا هذا الحصاد أو الإرث الدامي المتمثل بالكثير من النصب التذكارية لضحاياها، تماثيل جنرالاتها، اسماء معاركها، أدبها التعبوي، حفنة ممن كان يمجدها من الكتبة، الأغاني التي مجدت انتصاراتها الوهمية، الأوسمة ومسمياتها الغرائبية والنياشين المعلقة على صدور قادتها القتلة.
أما تذكاراتنا نحن فهي هذه الحصيلة اللامتناهية التي اورها الشاعر في هذا النص المعنون (تَذكارات: حتى جمعت تذكاراتها منهم: ساقُ رَجُلٍ/ عينُ امرأةٍ/ ذراعُ طفلٍ/ ابنٌ وحيدٌ الخ الخ)، بهذه الطريقة تدعونا قصيدة الشاعر جمال جمعة لتأمل انزياحاتها أو حميميتها من خلال رحلتنا الموجعة في دهاليز الحرب، وبهذا يبقى النص المتفرد يكشف عن نفسه من خلال اللغة والمضمون كي يحدد مسيرة القارئ واختياراته ولربما كان لهذا الاختيار أثره في بلورة العلاقة ما بين النص من جهة والقارئ من جهة ثانية ضمن إطار من التوهج الجمالي المكثف الذي جسد الابعاد المأساوية أوالتأثيرات السلبية التي احدثتها ايقاعات الحروب، لنتأمل هذا النص:
(تَذْكارات: عندما قامت الحرب، اعتقد الناس ان إقامتها لن تطول، فشرعوا بجمع التذكارات منها: قطعةٌ من جناح طائرة/ خرطوشةٌ فارغة/ شظيةُ قُنبلة/ رصاصةٌ فاسدةُ الخ الخ/ لكنها مكثت طويلاً طويلاً وكضيف ثقيل أخذت تشربُ قهوتها بِبُطءٍ بِبُطءٍ).
إن تأريخ الحروب لا يركن في النسيان دون الإشارة للقصائد الشعرية المضادة، ومن شأن هذه القصائد، أيضاً، أن تقود إلى قراءات أخرى وقد ترشدنا تجارب التأريخ إلى أن القصائد المضادة ذات النزعة التعبيرية المغايرة لا تتعاطى إلا مع الموقف المغاير، هذا بالإضافة إلى أن القصائد، في هذا الفصل من الديوان، كانت تعبيراً عن ضرورات حياتية مغلفة بأطُر إنسانية محضة، وإن قصائد كهذه تطرح أسئلة من نوع جديد: إلى أي حد يتخفى التأريخ، المتصل بالحروب، في ذاكرة البشر؟ ألا يضمر التأريخ، بمكر، هذه الذكريات؟ لنتأمل هذا النص:
(في يومٍ يأتي: في يومٍ يأتي/ أخرجُ من بيتي/ وأمدُ خُطاي على درب خالٍ/ يترصدني فيه ضَغِيني ليُلاقيني/ وبأولِ منعطفٍ/ حيث يسُلُّ مُسدسهُ/ كي يغرِسَ في جسدي طلقاتٍ خمساً تُرديِني).
هذه القصائد لا تشير إلى الذاكرة وحسب بل تتأمل في النسيان أيضاً، قصائد تصل بنا إلى معنى الحرب التي أخفى (المنتصر فيها) جرائمه مثلما دفن ضحاياه وأقام لهم نصباً تذكارياً .