هناك أمم توصف بأنها شابة، وهي تلك التي يكون الشباب فيها نسبة عالية من السكان، ولأسباب تتعلق بارتفاع معدلات المواليد وانخفاض معدل العمر. وبعبارة اخرى فان تداول الحياة فيها يكون سريعا. وهذا ينطبق عموما على تلك الامم والشعوب التي تحمل لقب الدول النامية، حتى وإن لم تنم، ونحن منها.
وسن الشباب هي تلك السن التي يبدأ فيها المفكرون والسياسيون والمبدعون مشروعات حياتهم. لن تجد أحدا يبدأ نشاطه الفكري او السياسي بعد ان يصل الشيخوخة، ولن تجد مبدعا يكتشف موهبته الابداعية وهو على أعتاب الخمسين. كلهم بدأوا مشاريع حياتهم في سن مبكرة ليراكموا بعدها الخبرة والجهد ليصلوا ما وصلوا اليه.
أستذكر هنا:
أن الرفيق فهد أسس أولى الخلايا الشيوعية وهو في اوائل العشرينات، وأصدر أول بيان يحمل شعار المنجل والمطرقة ووقعه باسم “عامل شيوعي” وكان في أواخر العشرينات. ويوم أسس الحزب الشيوعي كان في الثلاثينات.
وان الجواهري الكبير بدأ يزلزل الشعر العربي وهو في العشرينات من العمر، وأسس أول جريدة له، الفرات، وكان في أواخر العشرينات، ثم انخرط في مسار ابداعي وسياسي عاصف.
وان جواد سليم لمع اسمه في بغداد وروما وبيروت رساما ونحاتا وهو في العشرينات من عمره. وحين صنع معجزته الاخيرة، نصب الحرية، لم يكن قد بلغ الاربعين.
وان كامل الجادرجي بدأ حياته السياسية وهو في أوائل العشرينات، واصبح نائبا في البرلمان وهو في الثلاثين ليصدر بعدها جريدته “الأهالي”، ثم ينطلق مع عدد من رفاقه الى تأسيس الحزب الوطني الديمقراطي.
وان علي الوردي اصدر أولى مؤلفاته وهو في الثلاثينات ليصدر بعدها ثمانية عشر كتابا ويكتب المئات من البحوث لتتحول الى مرجع مهم من مراجع تحليل المجتمع العراقي ومفتاح لفهم الشخصية العراقية.
وويل لأمة يشيخ شبابها قبل الأوان.
حدثني صديق عن سنواته في الحرب العراقية الايرانية قائلا: “بعد اسبوع واحد من وجودي في الجبهة أحسست فجأة انني قد اصبحت في الخمسين وانا اسمع هدير القصف الذي لا ينقطع وأرى اشلاء أصدقائي تتطاير مزقا في الهواء. بعدها ودعت سن الشباب وأدمنت الشيخوخة”. كان يومها في الثالثة والعشرين.
لقد شاخت حتى يومنا هذا أجيال متعاقبة من الشباب العراقي نتيجة للحروب وظلم الاستبداد والخوف من المجهول، حتى ليظن المرء ان الصلة قد انقطعت بينها وبين تلك الاجيال التي اخرجت العراق من خيمة البداوة ووضعته على اعتاب نهضة ثقافية مدنية واعدة.
ولأن منطق الحياة يفرض نفسه في أكثر الازمان ظلاما، فإن شموسا متمردة ظلت تخرج من ثنايا الأجيال المتعاقبة لتشرق في سماء هذا الشباب العراقي فترفض شيخوختها المبكرة وتعاند أزمنة الخوف والاحباط.
أرى في حراك الشباب اليوم شمسا تشرق في سماء زماننا الرديء هذا.